أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

العلم النافع وعلامات أهله

العلم النافع وعلامات أهله

مختصر من رسالة صغيرة

للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله المتوفى سنة 795

بعنوان:

"فضل علم السلف على علم الخلف"

قال ابن رجب رحمه الله بعد ذكره لجملة من العلوم:

فالعلم النافع من هذه العلوم كلها:

ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق، والمعارف وغير ذلك.

والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أوّلا.

ثمّ الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً.

وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشُغْلٌ لمن بالعلم النافع عُنِي واشتَغَل.

ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه؛ أعانه وهداه، ووفقه وسدده، وفهّمه وألهمه، وحينئذٍ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به، وهي خشية الله، كما قال عزوجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}...

وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين:

أحدهما: على معرفة اللَه وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة. وذلك يستلزم إجلاله، وإعظامه، وخشيته، ومهابته، ومحبته، ورجاءه، والتوكل عليه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه.

والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه؛ من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة اللَه ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه:

فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع، فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب فقد خشع القلب للَّه وانكسر له. وذل هيبة وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيما. ومتى خشع القلب للَّه وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا...

فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه؛ بحيث يجده قريباً منه، يستأنس به في خلوته، ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته. ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته. كما قيل لوهيب بن الورد: يجد حلاوة الطاعة من عصى؟ قال: لا، ولا من هم. ومتى وجد العبد هذا فقد عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة، فإذا سأله أعطاه، وإذا دعاه أجابه ...

فالعلم النافع ما عرف به العبد ربه، ودل عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحى من قربه، وعبده كأنه يراه...

ومن فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلي الله عليه وسلم: وصار علمه وبالا وحجة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنه لم يخشع قلبه لربه. ولم تشبع نفسه من الدنيا بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً. ولم يُسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه. وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه...

وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة في الدنيا، والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العلماء، ومماراة السفهاء، وصرف وجوه الناس إليه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن من طلب العلم لذلك فالنار النار.

وربما ادعى بعض أصحاب هذه العلوم معرفة الله وطلبه، والأعراض عما سواه وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغيرهم، وإحسان ظنهم بهم وكثرة اتباعهم. والتعاظم بذلك على الناس...

ومن علامات ذلك عدم قبول الحق والانقياد إليه، والتكبر على من يقول الحق خصوصاً إن كان دونهم في أعين الناس، والإصرار على الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق ...

ومن علامات أهل العلم النافع: أنهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقاما، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، قال الحسن: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المواظب على عبادة ربه ...

ومن علامات العلم النافع: أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا وأعظمها الرئاسة والشهرة والمدح فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع.

فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته بحيث أنه يخشى أن يكون مكراً واستدراجاً كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.

ومن علامات العلم النافع: أن صاحبه لا يدعى العلم، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها فإنه يتكلم فيه غضباً للَّه لا غضباً لنفسه ولا قصداً لرفعتها على أحد.

وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأرداها...

وأهل العلم النافع : يسيئون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها ...

ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلا على من تقدمه في المقال وتشقق الكلام ظن لنفسه عليهم فضلا في العلوم أو الدرجة عند اللَه لفضل خص به عمن سبق فاحتقر من تقدمه واجترأ عليه بقلة العلم ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إنما كان ورعا وخشية للَّه، ولو أراد الكلام وإطالته لما عجز عن ذلك...

فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلا ولا قصوراً وإنما كان ورعا وخشية للَّه واشتغالا عما لا ينفع بما ينفع ...

فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يُقذف في القلب يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.

وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصداً. وكان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه وقال (( إن من البيان سحراً )) وإنما قاله في ذم ذلك لا مدحاً له كما ظن ذلك من ظنه ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً (( أن اللَه ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها )) وفي المعنى أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة على عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك.

وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم.

قال ابن مسعود: إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه.

فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم.

والسلف أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك. وهذا هو الفقه والعلم النافع فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق [كابن المبارك، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، واسحق، وأبي عبيد، ونحوهم].

فضبط ما روي عنهم في ذلك أفضل العلم، مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه، وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه، إلا أن يكون شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم.

وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه. وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة.

فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة مالا يهتدى إليه من بعدهم ولا يلم يه.

فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم.

قال الأوزاعي: العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم.

وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله.

وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالماً عند اللَه ولا يرضى إلا بأن يكون عند أهل الزمان عالماً. فإن رضي بالأول فليكتف بعلم اللَه فيه. ومن كان بينه وبين اللَه معرفة اكتفى بمعرفة اللَه إياه: ومن لم يرض إلا بأن يكون عالماً عند الناس دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ فليتبوأ مقعده من النار)).

فنسأل اللَه تعالى علماً نافعاً، ونعوذ به من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع، اللهم إنّا نعوذ بك من هؤلاء الأربع.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


هناك 8 تعليقات:

  1. بعد السلام عليكم ورحمة الله

    الحقيقة زرت مواقع كثيرة وبحق وصدق أقول موقعك أحد أفضل المواقع التي زرتها

    الحقيقه أتأسف جدا ً جدا لأني لم أزر موقعك قبل هذا اليوم ولكن بالصدفه زرته بواسطة محرك البحث

    وانني لاأدري كيف يكون لمواقع كثيرة زوار وشهره بالرغم من رداءة محتواها وقلة بل ندرة فوائدها ومن العجب ان تلك المواقع تستحدم الاعلان والتنشيط لزيادة زوارها
    مع ذلك بحق موقعك الافضل ولايقارن بغيره

    سأشيف موقعك بالمفضله وكلما سنحت لي الفرصة سأضع رابطه في زياراتي للمواقع الاخرى

    بارك الله بك ونفع الله بموقعك وجعله نهرا ونورا مضاء ً وجعل اللهم ربنا في موقعك خير وبركه ونفع للمسلمين وللإسلام

    جزاك الله خير



    التوقيع سليمان

    ssmo11 gamil com

    ردحذف
  2. السلام عليكم
    الله يجزاك عني وعن أمة الاسلام خير وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يبارك في عملك هذا وأن يصلح شأنك كله
    أخوك / أبو عبدالله

    ردحذف
  3. السلام عليكم
    الله يجزاك عني وعن أمة الاسلام خير وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يبارك في عملك هذا وأن يصلح شأنك كله
    أختك / أم خزامى

    ردحذف
  4. كم نخن بحاحة لمثل هذه المواقع السلفيةالعلمية الرائدة
    المميزه في الطرح والمواضيع نسأل الله لنا ولكم دوام التوفيق وأن يسدد على طريق الحق خطانا ...... ودمتم

    ردحذف
  5. جزاك الله خيرا
    ورفع درجتك
    وجعل الفردوس مثواك
    أحسن الله إليك كما أحسنت إلينا

    ردحذف
  6. بارك الله فيك و احسن اليك

    علينا أن نتوكل على الله في الانتفاع بالكتب التي نقرؤها،، فليس كل من قرأ انتفع،،
    وأمر آخر،،
    إن شرعنا في قراءة كتابٍ ما علينا أن نركز في نجاة أنفسنا،، وأما نفع الناس بما قرأنا فلنجعل هذا الأمر على الفتاح يفتح به علينا متى شاء،، لأن الشيطان كثيرا ما يدخل علينا بهذا المدخل فنقرأ الكتاب ونجد أنفسنا تنشغل بما ستنقله للناس،، فلانخاطب أنفسنا بما نقرأ ولا نتفكّر ولا نتأثر كثيرا،، فيفوتها ما يفوتها من النفع،،
    أسأل الله لنا ولكم الهدى والسداد والفلاح،، آمين.

    ردحذف
  7. الصوت الهادىء - سوريا

    بارك الله فيكم وجزاكم كل خير

    أسأل الله لكم الثبات على الحق

    جعل الله لكم هذا العمل في ميزان حسناتكم يوم لا ينفع مال ولا بنون

    ردحذف
  8. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
    بارك الله فيكم وجزاكم كل خير

    أسأل الله تعالى لكم الثبات على الحق

    جعل الله تعالى لكم هذا العمل في ميزان حسناتكم يوم لا ينفع مال ولا بنون

    ردحذف