أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

الأمر بقتال الخوارج والنهي عن قتال الأمراء الظلمة

الأمر بقتال الخوارج والنهي عن قتال الأمراء الظلمة
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج(1) والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة، وكفروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة، الذين يعلمون أن الظلم محرم، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة.
فقال في الخوارج: « يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ».
وقال في بعضهم: « يقتلون أهل الإيمان، ويدعون أهل الأوثان ».
وقال للأنصار: « إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض »، أي: تلقون من يستأثر عليكم بالمال ولا ينصفكم، فأمرهم بالصبر، ولم يأذن لهم في قتالهم.
وقال أيضا: « سيكون عليكم بعدي أمراء يطلبون منكم حقكم، ويمنعونكم حقهم ». قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: « أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم ».
وقال: « من رأى من أميره شيئا فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ».
وقال: « من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية ».
وقال: « خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ». قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: « لا ما صلوا ».
وهذه الأحاديث كلها في الصحيح، إلى أحاديث أمثالها.
فهذا أمره بقتال الخوارج، وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة. وهذا مما يستدل به على أنه ليس كل ظالم باغ يجوز قتاله.
ومن أسباب ذلك أن الظالم الذي يستأثر بالمال والولايات لا يقاتل في العادة إلا لأجل الدنيا، يقاتله الناس حتى يعطيهم المال والولايات، وحتى لا يظلمهم، فلم يكن أصل قتالهم ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، ولا كان قتالهم من جنس قتال المحاربين قطاع الطريق، الذين قال فيهم: « من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد » لأن أولئك معادون لجميع الناس، وجميع الناس يعينون على قتالهم، ولو قدر أنه ليس كذلك العداوة والحرب، فليسوا ولاة أمر قادرين على الفعل والأخذ، بل هم بالقتال يريدون أن يأخذوا أموال الناس ودماءهم، فهم مبتدءون الناس بالقتال، بخلاف ولاة الأمور فإنهم لا يبتدءون بالقتال للرعية.
وفرق بين من تقاتله دفعا وبين من تقاتله ابتداء. ولهذا هل يجوز في حال الفتنة قتال الدفع؟ فيه عن أحمد روايتان لتعارض الآثار والمعاني.
وبالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال والإمارة، وهذا قتال على الدنيا.
ولهذا قال أبو برزة الأسلمي عن فتنة ابن الزبير، وفتنة القراء مع الحجاج، وفتنة مروان بالشام: هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا، وأما أهل البدع كالخوارج فهم يريدون إفساد دين الناس، فقتالهم قتال على الدين.
والمقصود بقتالهم أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله. فلهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا، ونهى عن ذلك.
ولهذا كان قتال علي رضي الله عنه للخوارج ثابتا بالنصوص الصريحة، وبإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين. وأما قتال الجمل وصفين فكان قتال فتنة، كرهه فضلاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء، كما دلت عليه النصوص. حتى الذين حضروه كانوا كارهين له، فكان كارهه في الأمة أكثر وأفضل من حامده.
وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه «أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم مالا فجاء ذو الخويصرة التميمي، وهو محلوق الرأس، كث اللحية، ناتئ الجبين، بين عينيه أثر السجود، فقال: يا محمد اعدل فإنك لم تعدل. فقال: « ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ » ثم قال: « أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني؟ » فقال له: بعض الصحابة: دعني أضرب عنقه. فقال: « يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم » الحديث.
فهذا كلامه في هؤلاء العباد لما كانوا مبتدعين. وثبت عنه في الصحيح «أن رجلا كان يشرب الخمر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما أتي به إليه جلده الحد، فأتي به إليه مرة فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: « لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله » فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله، مع لعنة شارب الخمر عموما.
فعلم الفرق بين العام المطلق والخاص المعين، وعلم أن أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم أخف ضررا على المسلمين من أمر أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم.
____________
(1) قال الشهرستاني في "الملل والنحل" (1 / 114) :
"الخوارج: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين؛ أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان".
وقال الإمام البربهاري في شرح السنة (76) في تعريف الخوارج:
"من خرج على إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي، وقد شق عصا المسلمين وخالف الآثار، وميتته ميته جاهلية".
وقال الإمام الآجري في كتاب الشريعة (24):
"والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج يتوارثون هذا المذهب قديما وحديثا، ويخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين ... قاتلهم علي رضي الله عنه فأكرمه الله تعالى بقتلهم، وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من قتلهم أو قتلوه، وقاتل معه الصحابة فصار سيف علي رضي الله عنه في الخوارج سيف حق إلى أن تقوم الساعة".

من كتاب "منهاج السنة النبوية" (5 / 149)

-۞ أقرأ أيضاً ::
العلامة ابن عثيمين

شيخ الإسلام ابن تيمية
الإمام الشاطبي
الإمام المروزي
الإمام ابن القيم الجوزية
الإمام ابن القيم الجوزية
-

هناك 14 تعليقًا:

  1. ومن أسباب ذلك أن الظالم الذي يستأثر بالمال والولايات لا يقاتل في العادة إلا لأجل الدنيا، يقاتله الناس حتى يعطيهم المال والولايات، وحتى لا يظلمهم، فلم يكن أصل قتالهم ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، ولا كان قتالهم من جنس قتال المحاربين قطاع الطريق، الذين قال فيهم: « من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد » لأن أولئك معادون لجميع الناس، وجميع الناس يعينون على قتالهم، ولو قدر أنه ليس كذلك العداوة والحرب، فليسوا ولاة أمر قادرين على الفعل والأخذ، بل هم بالقتال يريدون أن يأخذوا أموال الناس ودماءهم، فهم مبتدءون الناس بالقتال، بخلاف ولاة الأمور فإنهم لا يبتدءون بالقتال للرعية.
    عذا الكلام يوضح ان ضهداء الثورةالمحابة للقذافى على حق

    ردحذف
  2. كل الشكر على التوضيح بالفعل هم المبتدئين بالظلم, جزاك الله خيراً

    ردحذف
  3. السلام عليكم
    بارك الله فيك أخي الكريم على التدوينة المميزة.

    ردحذف
  4. بارك الله فيك..بس حبيت اعرف منهم الخوارج في وقتنا الحاضر هل هم اباضة ام شيعة فأرجوا الرد السريع وشكرا ومنكم نستفيد.

    ردحذف
    الردود
    1. فرق الخوارج كثيرة ولكن أشهرها:
      1- المحكمة : وهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورفعوا شعار " لا حكم إلا لله " ويسمون الحرورية ، وهؤلاء كفّروا الصحابة بقبول التَّحكيم، مع أنه ليس بذنبٍ أصلاً

      2- الأزارقة : يعتقدون أن ديار مخالفيهم ديار كفر، وأن من قام في دار الكفر فكافر لا يسعه إلا الخروج

      3- النجدات ، وقد خرجوا على نافع الأزرق وقالوا أن من يقول ما قاله نافع فهو كافر ثم افترق هَؤُلَاءِ ثَلَاث فرق وَخَرجُوا على نجدة
      وبدع النجدات كثيرة ومنها أن المصر على الذنب يكفر.
      ومن أقوالهم : أن التقية جائزة في القول والعمل كله، وإن كان في قتل النفوس، وقالوا بأن القعود بين المخالفين تحت ستار التقية أمر لا غبار عليه حتى ولو بلغت التقية قتل من هم على رأيهم تنفيذا لأوامر مخالفيهم المقيمين معهم، وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط. وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم.
      واستحل نجدة بن عامر دماء أهل العهد والذمة وأموالهم في حال التقية، وحكم بالبراءة ممن حرمها.

      4- العجاردة : وَزَعَمُوا أَن من لم يعلم الله بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ فَهُوَ جَاهِل بِهِ وَالْجَاهِل بِهِ كَافِر

      5- الأباضية : هم فِيمَا بَينهم فرق وَكلهمْ يَقُولُونَ أَن مخالفيهم من فرق هَذِه الْأمة كفار لَا مشركون وَلَا مُؤمنُونَ

      وغيرهم كثير ذكر أهل العلم في كتب العقائد،

      ولكن إذا تأملت في أقوالهم السابقة تبين أن الذي يجمعهم : التكفير بغير مكفر بغير تأويل سائغ

      ولا يشترط التكفير بالكبيرة لأن الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنن علي بن أبي طالب والصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- لم يكونوا ممن يعتقد القول بكفر مرتكب الكبائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر، وإنّما كفّروا الصحابة بقبول التَّحكيم، مع أنه ليس بذنبٍ أصلاً، فكفروا عليًا ومعاوية والحكَمين -رضي الله عنهم- أجمعين، ومَن رضي معهم بالتَّحكيم، واستحلوا دماءهم، فحكم عليهم الصّحابةُ بأنهم الخوارج الذين أخبر عنهم النّبي - صلى الله عليه وسلم - لفعلهم هذا، ولم يسألوهم عن مذهبهم في بقية الذّنوب، وهل يُكفِّرون بها أم لا. بل إن «النَّجدات» وهم من رؤوس الخوارج باتفاق أهل العلم، لا يقولون بكفر مرتكب الكبيرة، قال أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- مبينًا عقيدة الخوارج: «وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك»

      فالوصف الجامع للخوارج هو «تكفير المسلمين بغير حق واستحلال دمائهم بذلك»، وهذا التكفير له صور كثيرة: كتكفير مرتكب الكبيرة أو بمطلق الذنوب، أو التكفير بما ليس بذنب أصلاً، أو التكفير بالظن والشّبهات والأمور المحتملة، أو بالأمور التي يسوغ فيها الخلاف والاجتهاد، أو دون التّحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع.
      وإذا كان العلماء قد حكموا على من يكفر مرتكب الكبيرة بأنه من الخوارج، فكيف بمن يكفر بالصغائر والأمور الاجتهادية أو بما هو مباح، كالجلوس مع الكفار ومراسلتهم مثلاً؟

      حذف
  5. شكرا لك وجعله الله في ميزان حسناتك

    ردحذف
  6. أسأل الله أن يديم على بلاد الحرمين الأمن والأمان وأن يثبت ولاة أمرها وشعبها على الدين،وأن يهلك كل من يطمع في تفريق هذا الشعب النبيل.

    ردحذف
  7. barak Allah fikom

    ردحذف
  8. شكرا على الموضوع القيم والثري

    ردحذف
  9. هل انتم الفرقه الناجيه من النار

    ردحذف
    الردود
    1. الفرقة الناجية من النار هي التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابة.

      أسأل الله أن يجعلني وإياكم منها، بمنه وكرمه.

      حذف
  10. الله يجعلني من الفرقه الناجيه

    سبحان الله والحمد لله والله واكبر والله واستغفر الله

    ردحذف
  11. بارك الله فيك على المقال القيم

    ردحذف
  12. لاينطق عن الهوا انه وحي يوحا صدق رسول اللة صلي اللة علية وسلم بارك اللة فيك وجعل الجنة مسواك يااخي

    ردحذف