أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

قال شيخ الإسلام والمسلمين، المعدود من أكابر السلف الماضين، المجدد لما درس من أصول الملة والدين، السلفي الأول، وإن تأخر زمنه عند من خبر وتأمل، بحر العلوم، أوحد المجتهدين، العالم الرباني ؛ الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب، لما سأله أهل القصيم عن عقيدته :

فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم

أُُشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم : أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.

ومن الإيمان بالله : الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا أٌلحد في أسمائه وآياته، ولا أكيّف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه ؛ لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه.

فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً، فنزّه نفسه عما وصفه به المخالفون، من أهل التكييف، والتمثيل؛ وعما نفاه عنه النافون، من أهل التحريف والتعطيل، فقال: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الصافات 180-182]

والفرقة الناجية : وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية؛ وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية. وهم وسط، في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية. وهم وسط: في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض، والخوارج.

وأعتقد : أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقةً، وأنزله علي عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وأومن : بأن الله فعّال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.

وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلاً، تدنو منهم الشمس، وتُنصب الموازين، وتُوزن بها أعمال العباد ﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ[المؤمنون 102-103] وتنشروا الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله .

وأومن : بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.

وأومن : بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم.

وأومن : بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع، وأول مشفّع؛ ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال؛ ولكنها لا تكون إلا من بعد الأذن والرضى، كما قال تعالى: ﴿ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى[الأنبياء: 28]، وقال تعالى: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ[البقرة 255] وقال تعالى: ﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى[النجم 26] وهو: لا يرضى إلا التوحيد؛ ولا يأذن إلا لأهله وأما المشركون: فليس لهم من الشفاعة نصيب؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ[المدثر 48] .

وأومن : بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته .

وأومن : بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته؛ وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم.

وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم، عملاً بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر 10] وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء.

وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله.

ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكني أرجو للمحسن، وأخاف علي المسيء.

ولا أُكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام ؛ وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام: براً كان، أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل .

وأرى وجوب السمع والطاعة : لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته ؛ وحرم الخروج عليه.

وأرى هجر أهل البدع، ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأَكِلُ سرائرهم إلى الله ؛ وأعتقد : أن كل محدثه في الدين بدعة.

وأعتقد أن الإيمان: قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو: بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إلَه إلاّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.

وأرى وجوب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة .

فهذه عقيدة وجيزة، حررتها وأنا مشتغل البال، لِتطلَّعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل ...

من الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/29)

من كيد الشيطان العجيب

من كيد الشيطان العجيب

للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله تعالى

من كيد الشيطان العجيب أنه يُشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها : قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة.

فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام؛ أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به، وثقله عليه، فهّون عليه تركه حتى يتركه جملة، أو يقصر فيه ويتهاون به.

وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة؛ أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.

فيقصر بالأول ويتجاوز الثاني، كما قال بعض السلف : ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر.

وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جداً الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس.

وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كَلاًّ على الناس مستشرفين إلى ما بأيديهم.

وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم

وكذلك قصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.

وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.

وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة.

وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.

وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.

وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.

وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.

وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة.

وقصر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعلى وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا : إنهم لا يفعلون شيئا البته وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة فهي نفس فعله لا أفعالهم والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل ألبتة.

وقصر بقوم حتى قالوا : إن رب العالمين ليس داخلا في خلقه ولا بائنا عنهم ولا هو فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، وتجاوز بآخرين حتى قالوا : هو في كل مكان بذاته كالهواء الذي هو داخل في كل مكان.

وقصر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يُشّفِع أحداً في أحد البته، ولا يرحم أحداً بشفاعة أحد، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم.

وقصر بقوم حتى قالوا : إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة.

وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقة ومثلوه بهم.

وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوهم واستحلوا حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة: من العصمة وغيرها وربما ادعوا فيهم الإلهية.

وكذلك قصر باليهود في المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله وجعلوه إلها يعبد مع الله.

وقصر بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات وهم النصاري وأشباههم، وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال وهم أشباه اليهود.

وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم وسموا أنفسهم الملامتية.

وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا أو فضولا، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح وقالوا : العارف لا يسقط وارده لورده.

وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيرا وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة.

مختصر من كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ( 1 / 116 )

-۞ أقرأ أيضاً ::

عقبات الشيطان السبع

الإمام ابن قيم الجوزية

كمال الشريعة

الإمام ابن قيم الجوزية

الناس ثلاثة: عالم ومتعلم وهمج أتباع كل ناعق

الإمام ابن قيم الجوزية

-

كيف ننفي الغل والغش من قلوبنا ؟

كيف ننفي الغل والغش من قلوبنا ؟

لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى

روى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

« ثلاث خصالِ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلب مسلم أبداً:

[1] إخلاصُ العمل لله،

[2] ومناصحَةُ وُلاة الأمر،

[3] ولزومُ الجماعة؛ فإنَّ دعوتَهُم تُحيط بهم من ورائِهم ».

[ الحديث متواتر وهو في المسند (5/183) ].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في [الفتاوى (35/7-8)] :

" و « يغلُّ » – بالفتح – هو المشهور، ويقال: غَلَى صدره فغلَّ إذا كان ذا غش وضغن وحقد.

أي: قلب المسلم لا يغلُّ على هذه الخصال الثلاث، وهي المتقدمة في قوله: « إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم ».

فإن الله إذا كان يرضاها لنا لم يكن قلب المؤمن الذي يحبُ ما يحبه الله يَغِلُّ عليها ويبغضها ويكرهها، فيكون في قلبه عليها غِلُّ، بل يحبها قلب المؤمن ويرضاها". اهـ.

وقال أيضاً في [الفتاوى (1/18)]:

"وهذه الثلاث – يعني: إخلاص العمل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين – تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة.

وبيان ذلك: أن الحقوق قسمان: حقٌّ لله، وحقٌّ لعباده.

فحق الله: أن نعبده ولا نشرك به شيئاً ...

وحقوق العباد قسمان : خاص وعام.

أما الخاص: فمثل برِّ كل إنسان والديه، وحقِّ زوجته، وجاره فهذه من فروع الدين، لأن المكلف قد يخلوا عن وجوبها عليه، ولأن مصلحتها خاصة فرديه.

وأما الحقوق العامةفالناس نوعان: رُعاة ورعية.

فحقوق الرعاة: مناصحتهم(1)،

وحقوق الرعية: لزوم جماعتهم، فإن مصلحتهم لا تتم إلاّ باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلاله، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعاً.

فهذه الخصال تجمع أصول الدين".

_____________

(1) قال العلامة الشيخ محمد صالح بن عثيمين رحمه الله في شرح حديث النصيحة:

" والنصيحة للأمراء تكون بأمور منها:

أولاً: اعتقاد إمامتهم وإمرتهم، فمن لم يعتقد أنهم أمراء فإنه لم ينصح لهم، لأنه إذا لم يعتقد أنهم أمراء فلن يمتثل أمرهم ولن ينتهي عما نهوا عنه، فلا بد أن تعتقد أنه إمام أو أنه أمير، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، ومن تولى أمر المسلمين ولو بالغلبة فهو إمام، سواء كان من قريش أومن غير قريش.

ثانياً: نشر محاسنهم في الرعية، لأن ذلك يؤدي إلى محبة الناس لهم، وإذا أحبهم الناس سهل انقيادهم لأوامرهم.

وهذا عكس ما يفعله بعض الناس حيث ينشر المعايب ويخفي الحسنات، فإن هذا جورٌ وظلم.

فمثلاً يذكر خصلة واحدة مما يُعيب به على الأمراء وينسى خصالاً كثيرة مما قاموا به من الخير، وهذا هو الجور بعينه.

ثالثاً: امتثال ما أمروا به وما نهوا عنه، إلا إذا كان في معصية الله عزّ وجل لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وامتثال طاعتهم عبادة وليست مجرد سياسة، بدليل أن الله تعالى أمر بها فقال عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمر منكم) (النساء: ٥٩) فجعل ذلك من مأموراته عزّ وجل، وما أمر الله تعالى به فهو عبادة.

ولا يشترط في طاعتهم ألاّ يعصوا الله، فأطعهم فيما أمروا به وإن عصوا الله، لأنك مأمور بطاعتهم وإن عصوا الله في أنفسهم.

رابعاً: ستر معايبهم مهما أمكن، وجه هذا: أنه ليس من النصيحة أن تقوم بنشر معايبهم، لما في ذلك من ملئ القلوب غيظاً وحقداً وحنقاً على ولاة الأمور، وإذا امتلأت القلوب من ذلك حصل التمرّد وربما يحصل الخروج على الأمراء فيحصل بذلك من الشر والفساد ما الله به عليم.

وليس معنى قولنا: ستر المعايب أن نسكت عن المعايب، بل ننصح الأمير مباشرة إن تمكنا، وإلا فبواسطة من يتصل به من العلماء وأهل الفضل. ولهذا أنكر أسامة بن زيد رضي الله عنه على قوم يقولون: أنت لم تفعل ولم تقل لفلان ولفلان يعنون الخليفة، فقال كلاماً معناه: (أتريدون أن أحدثكم بكل ما أحدث به الخليفة) فهذا لا يمكن.

فلا يمكن للإنسان أن يحدث بكل ما قال للأمير، لأنه إذا حدث بهذا فإما أن يكون الأمير نفذ ما قال، فيقول الناس: الأمير خضع وذل، وإما أن لا ينفذ فيقول الناس: عصى وتمرّد.

ولذلك من الحكمة إذا نصحت ولاة الأمور أن لا تبين ذلك للناس، لأن في ذلك ضرراً عظيماً.

خامساً: عدم الخروج عليهم، وعدم المنابذة لهم، ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في منابذتهم إلا كما قال:

أَنْ تَرَوا أي رؤية عين، أو رؤية علم متيقنة.

كُفْرَاً بَوَاحَاً أي واضحاً بيّناً.

عِنْدَكُمْ فِيْهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ أي دليل قاطع.

ثم إذا جاز الخروج عليهم بهذه الشروط فهل يعني ذلك أن يخرج عليهم؟ لأن هناك فرقاً بين جواز الخروج، وبين وجوب الخروج.

والجواب:  لا نخرج حتى ولو رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، إلا حيث يكون الخروج مصلحة، وليس من المصلحة أن تقوم فئة قليلة سلاحها قليل في وجه دولة بقوتها وسلاحها، لأن هذا يترتب عليه إراقة الدماء واستحلال الحرام دون ارتفاع المحذور الذي انتقدوا به الأمراء، كما هو مشاهد من عهد خروج الخوارج في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إلى يومنا هذا، حيث يحصل من الشر والمفاسد ما لا يعلمه إلاربُّ العباد.

لكن بعض الناس تتوقد نار الغيرة في قلوبهم ثم يحدثون ما لا يحمد عقباه، وهذا غلط عظيم.

ثم إنا نقول: ما ميزان الكفر؟ فقد يرى البعض هذا كفراً والبعض لايراه كفراً، ولهذا قيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله كُفْرَاً بَوَاحَاً ليس فيه احتمال، كما لو رأيته يسجد للصنم، أو سمعته يسب الله، أو رسوله أو ما أشبه ذلك.  [شرح الأربعين النووية ص 140]

وقد شرح ابن القيم هذه الحديث شرحاً موجزاً جميلاً جاء فيه:

" ... قوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم » إلى آخره، أي: لا يحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الخصال، فإنها تنفي الغل والغش ومفسدات القلب وسخائمة. فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيلة جملة، لأن قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل والغش كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ فمن أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء فانصرف عنه السوء والفحشاء.

... وقوله: « ومناصحة أئمة المسلمين » وهذا –أيضا- مناف للغل والغش؛ فإن النصيحة لا تجامع الغل، إذ هي ضده، فمن نصح الأئمة والأمة فقد برئ من الغل.

وقوله: « لزوم جماعتهم » هذا –أيضاً- مما يطهر القلب من الغل والغش؛ فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم. وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم، والعيب والذم لهم، كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم؛ فإن قلوبهم ممتلئة غلاًّ وغشّاً، ولهذا تجد الرافضة أبعد الناس من الإخلاص، وأغشًّهم للأئمة والأمة، وأشدّهم بعداً عن جماعة المسلمين ...

وقوله: « فإن دعوتهم تحيط من ورائهم » هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى، شبّه دعوة المسلمين بالسُّور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام وهم داخلوها، لَمّا كانت سوراً وسياجاً عليهم أخبر أنَّ من لزم جماعة المسلمين؛ أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم. فالدعوة تجمع شمل الأمة، وتلُم شعثها، وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته ".اهـ

وقال أيضاً في [مدارج السالكين (2/90)]:

" فإن القلب يغلُّ على الشرك أعظم غل، وكذلك يغلُّ على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤه غلاًّ ودغلاً، ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه: بتجريد الإخلاص، والنصح، ومتابعة السنة".

وبهذا الشرح الجميل يتًّضح معنى هذا الحديث، ويظهر أن له شأنا عظيماً في شريعة الإسلام.

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بعد ذكر هذه الخصال الثلاث: " ... لم يقع خللٌ في دين الناس ودنياهم إلاّ بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها ". [مسائل الجاهلية ضمن مجموع مؤلفات الشيخ (1/336)]


-۞ أقرأ أيضاً ::

-