أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

أصول السنة للإمام أحمد

أصول السنة

لإمام أهل السنة والجماعة

الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ

قال الإمام أحمد بن حنبل – رضي الله عنه –:

أصول السنة عندنا :

التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.

والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء، إنما هو الاتباع وترك الهوى.

ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة - لم يقبلها ويؤمن بها - لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يُقال لِـمَ ولا كيف، إنما هو التصديق والإيمان بها، ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كُـفِيَ ذلك وأُحكِمَ له، فعليه الإيمان به والتسليم له ، مثل حديث " الصادق المصدوق " ومثل ما كان مثله في القدر، ومثل أحاديث الرؤية كلها، وإن نأت عن الأسماع واستوحش منها المستمع، وإنما عليه الإيمان بها، وأن لا يرد منها حرفاً واحدا ً، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات .

وأن لا يخاصم أحداً ولا يناظره، ولا يتعلم الجدال، فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه ومنهي عنه، لا يكون صاحبه وإن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدال ويسلم ويؤمن بالآثار .

والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، ولا يضعف أن يقول: ليس بمخلوق، فإن كلام الله ليس ببائن منه، وليس منه شيء مخلوق، وإياك ومناظرة من أحدث فيه، ومن قال باللفظ وغيره ، ومن وقف فيه، فقال: لا أدري مخلوق أو ليس بمخلوق، وإنما هو كلام الله فهذا صاحب بدعة مثل من قال: ( هو مخلوق )، وإنما هو كلام الله وليس بمخلوق .

والإيمان بالرؤية يوم القيامة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحاح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه، فإنه مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيح، رواه قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ ورواه الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ ورواه علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن كما جاء على ظاهره، ولا نناظر فيه أحداً.

والإيمان بالميزان يوم القيامه كما جاء، يوزن العبد يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة، وتوزن أعمال العباد كما جاء في الأثر، والإيمان به، والتصديق به، والإعراض عن من ردّ ذلك، وتركُ مجادلته.

وأن الله يكلم العباد يوم القيامه، ليس بينهم وبينه ترجمان، والتصديق به.

والإيمان بالحوض، وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضا يوم القيامة تَـرِدُ عليه أمته، عرضه مثل طوله ، مسيرة شهر ، آنيته كعدد نجوم السماء على ما صحت به الأخبار من غير وجه.

والإيمان بعذاب القبر، وأن هذه الأمة تُـفـتَـن في قبورها، وتُسأل عن الإيمان والإسلام ، ومن ربه؟ ومن نبيه؟.

ويأتيه منكر ونكير، كيف شاء الله عزوجل، وكيف أراد، والايمان به والتصديق به.

والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبقوم يخرجون من النار بعد ما احترقوا وصاروا فحما، فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة كما جاء في الأثر، كيف شاء الله ، و كما شاء ، إنما هو الإيمان به، والتصديق به .

والإيمان أن المسيح الدجال خارج، مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كائن، وأن عيسى ابن مريم عليه السلام ينزل فيقتله بباب لُـدٍّ.

والإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، كما جاء في الخبر : (( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا )) .

ومن ترك الصلاة فقد كفر ، وليس من الأعمال شيء تركه كفر إلا الصلاة ، من تركها فهو كافر ، وقد أحل الله قتله .

وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، نُـقـدّم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يختلفوا في ذلك، ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد، كلهم يصلح للخلافة، وكلهم إمام، ونذهب في ذلك إلى حديث ابن عمر: ( كنا نعُـدُّ ورسول الله حي وأصحابه متوافرون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت ) ... ثم من بعد أصحاب الشورى أهل بدر من المهاجرين، ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر الهجرة والسابقة، أولاً فأولا، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، القرن الذي بعث فيهم .

وكل من صحبه سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة، أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، وكانت سابقته معه، وسمع منه ونظر إليه نظرة، فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه، ولو لقوا الله بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وسمعوا منه، ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعة، أفضل لصحبتهم من التابعين، ولو عملوا كل أعمال الخير.

والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البَـرّ والفاجر، ومن ولي الخلافة، واجتمع الناس عليه، ورضوا به، ومن عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين.

والغزو ماض مع الأمير إلى يوم القيامه البَـرّ والفاجر لا يُـترَك.

وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ، ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة، من دفعها إليهم أجزأت عنه، بَـرّاً كان أو فاجراً .

وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه، جائزة باقية تامة ركعتين، من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار، مخالف للسنة، ليس له من فضل الجمعة شيء ؛ إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم، فالسنة: أن يصلي معهم ركعتين، ويدين بأنها تامة، لا يكن في صدرك من ذلك شك.

ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين – وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة، بأي وجه كان، بالرضا أو بالغلبة - فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية.

ولا يحل قتال السلطان، ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق.

وقتال اللصوص والخوارج جائز، إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله فله أن يقاتل عن نفسه وماله، ويدفع عنها بكل ما يقدر، وليس له إذا فارقوه أو تركوه أن يطلبهم، ولا يتبع آثارهم، ليس لأحد إلا الإمام أو ولاة المسلمين، إنما له أن يدفع عن نفسه في مقامه ذلك، وينوي بجهده أن لا يقتل أحداً، فإن مات على يديه في دفعه عن نفسه في المعركة فأبعد الله المقتول، وإن قُـتِـل هذا في تلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله، رجوت له الشهادة، كما جاء في الأحاديث وجميع الآثار في هذا إنما أُمِر بقتاله، ولم يُـؤمَـر بقتله ولا اتباعه، ولا يجهز عليه إن صُرِع أو كان جريحا، وإن أخذه أسيرا فليس له أن يقتله، ولا يقيم عليه الحد، ولكن يرفع أمره إلى من ولاه الله، فيحكم فيه.

ولا نشهد على أحد من أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار، نرجو للصالح ونخاف عليه، ونخاف على المسيء المذنب، ونرجو له رحمة الله.

ومن لقى الله بذنب يجب له به النار تائبا غير مُصـرٍّ عليه، فإن الله يتوب عليه، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ومن لقيه وقد أقيم عليه حد ذلك الذنب في الدنيا، فهو كفارته، كما جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لَـقِيـَه مُصِـرّا غير تائب من الذنوب التي استوجب بها العقوبة فأمره إلى الله، إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له، ومن لَـقِـيَـه وهو كافر عذّبه ولم يغفر له.

والرجم حق على من زنا وقد أُحصن، إذا اعترف أو قامت عليه بيّنة، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدون.

ومن انتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أبغضه بحدث كان منه، أو ذكر مساوئه، كان مبتدعا، حتى يترحم عليهم جميعا، ويكون قلبه لهم سليما.

والنفاق هو: الكفر، أن يكفر بالله ويعبد غيره، ويُـظهِـر الإسلام في العلانية، مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (( ثلاث من كن فيه فهو منافق )) هذا على التغليظ، نرويها كما جاءت، ولا نفسرها.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (( لا ترجعوا بعدي كفارا ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض )) ، ومثل : (( إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار )) ، ومثل : (( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ))، ومثل: (( من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما ))، ومثل: (( كُـفـرٌ بالله تَـبَـرؤٌ من نَـسَـبٍ وإن دَقّ ))، ونحو هذه الأحاديث مما قد صح وحُـفِـظ، فإنا نُـسَـلم له، وإن لم نعلم تفسيرها، ولا نتكلم فيها، ولا نجادل فيها، ولا نفسّر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت، لا نردها إلا بأحق منها .

والجنة والنار مخلوقتان ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( دخلتُ الجنة فرأيت قصراً ... )) ، و (( رأيت الكوثر )) ، و (( واطلعت في الجنة ، فرأيت أكثر أهلها... )) كذا ، و (( واطلعت في النار، فرأيت ... )) كذا وكذا، فمن زعم أنهما لم تُخلقا، فهو مكذّب بالقرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار.

ومن مات من أهل القبلة مُـوَحِـداً يُـصلّى عليه، ويُستغفر له، ولا يُحجب عنه الاستغفار، ولا تترك الصلاة عليه لذنب أذنبه صغيرا كان أو كبيرا، أَمــرُهُ إلى الله تعالى.

آخر الرسالة والحمد لله وحده وصلواته على محمد وآله وسلم تسليما .

فوائد وأسرار من فاتحة الكتاب

فوائد وأسرار من فاتحة الكتاب

الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى

قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله ورضي عنه بمنه وكرمه:

اعلم أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن مقصود الصلاة وروحها ولبها، هو إقبال القلب على الله تعالى فيها، فإذا صليت بلا قلب فهي كالجسد الذي لا روح فيه.

إذا فهمت ذلك، فافهم نوعا واحداً من الصلاة، وهو قراءة الفاتحة، لعل الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المضاعفة، المكفرة للذنوب.

ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة، حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل.

فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله: حمدني عبدي،

فإذا قال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال الله: أثنى علي عبدي،

فإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال الله: مجدني عبدي،

فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل،

فإذا قال: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل".

فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله، وهو أولها إلى قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه، وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب، تبين له ما أضاع أكثر الناس.

قد هيؤوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة، لعلك تصلي بحضور قلب، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك؛ لأن ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح، كما قال تعالى: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ }

وأبدأ بمعنى الاستعاذة، ثم البسملة، على طريق الاختصار والإيجاز.

فمعنى: {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم}:

ألوذ بالله وأعتصم بالله، وأستجير بجنابه من شر هذا العدو، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد، إذا أراد عمل الخير، من صلاة أو قراءة أو غير ذلك، وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله، لقوله تعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ }؛ فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا سببا في حضور القلب. فاعرف معنى هذه الكلمة، ولا تقلها باللسان فقط، كما عليه أكثر الناس.

وأما البسملة: فمعناها:

أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك { بِسْمِ اللَّهِ }، لا بحولي ولا بقوتي، بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله، متبركا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمي في أوله، من أمر الدين أو أمر الدنيا.

فإذا أحضرت في نفسك: أن دخولك في القراءة بالله، مستعينا به، متبرئا من الحول والقوة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير.

{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }:

اسمان مشتقان من الرحمة، أحدهما أبلغ من الآخر، مثل: العلام والعليم، قال ابن عباس: "هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر"، أي: أكثر من الآخر رحمة.

وأما الفاتحة، فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد؛

فأولها: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }:

الألف واللام في قوله: { الْحَمْدُ } للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد لله لا لغيره، فأما الذي لا صنع للخلق فيه، مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر، والسماء والأرض، والأرزاق، وغير ذلك: فواضح.

وأما ما يحمد عليه المخلوق، مثل ما يثنى به على الصالحين والأنبياء المرسلين، وعلى من فعل معروفا، خصوصا إن أسداه إليك، فهذا كله لله أيضا، بمعنى أنه خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به ذلك، وحببه إليه وقواه عليه، وغير ذلك من إفضال الله الذي لو يختل بعضها، لم يحمد ذلك المحمود، فصار الحمد كله لله بهذا الاعتبار.

وأما قوله: { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

فالله عَلَمٌ على ربنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله، أي: المعبود، لقوله: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } أي: المعبود في السماوات، والمعبود في الأرض.

وأما الرب، فمعناه: المالك المتصرف،

وأما{ الْعَالَمِينَ } فهو اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى؛ فكل ما سواه من ملك ونبي، وإنسي وجني وغير ذلك، مربوب مقهور يتصرف فيه، فقير محتاج، كلهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصمد.

وذكر بعد ذلك: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }، وفي قراءة أخرى { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فذكر في أول هذه السورة، التي هي أول المصحف، الألوهية والربوبية والملك، كما ذكره في آخر سورة في المصحف { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ } : فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى، ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد، في آخر ما يطرق سمعك من القرآن، فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير، لم يجمع بينهما في أول القرآن، ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الصفات، فكل صفة لها معنى غير معنى الصفة الأخرى، كما يقال: محمد رسول الله، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم، فكل وصف له معنى غير ذلك الوصف الآخر.

إذا عرفت: أن معنى "الله" هو الإله، وعرفت أن الإله هو المعبود، ثم دعوت الله، أو ذبحت له، أو نذرت له، فقد عرفت أنه الله، فإن دعوت مخلوقا طيبا أو خبيثا، أو ذبحت له أو نذرت له، فقد زعمت أنه هو الله...

وأما "الرب" فمعناه: المالك المتصرف، فالله تعالى مالك كل شيء، وهو المتصرف فيه، وهذا حق، ولكن أقر به عبّاد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى:

{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}

[سورة يونس آية : 31]

فمن دعا الله في تفريج كربته وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقا في ذلك، فقد أقر له بالربوبية ولم يقر لله بأنه رب العالمين، بل جحد بعض ربوبيته. فرحم الله عبدا نصح نفسه، وتفطن لهذه المهمات ...

وأما " الملك " فيأتي الكلام عليه؛ وذلك أن قوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وفي القراءة الأخرى { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فمعناه عند جميع المفسرين كلهم، فسره الله في قوله:

{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }

وتضمنت هذه الثلاث الآيات ثلاث مسائل:

الآية الأولى: فيها المحبة؛ لأن الله منعم، والمنعم يُحَبُ على قدر إنعامه؛ والمحبة تنقسم إلى أربعة أنواع:

محبة شركية، وهي محبة الذين قال الله فيهم: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } إلى قوله: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }.

المحبة الثانية: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين.

والمحبة الثالثة: طبيعية، وهي محبة المال والولد، فإذا لم تشغل عن طاعة الله، ولم تعن على محارم الله، فهي مباحة.

والمحبة الرابعة: حب أهل التوحيد، وبغض أهل الشرك، وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد بها الإنسان ربه.

الآية الثانية: فيها الرجاء.

والآية الثالثة: فيها الخوف.

وأما قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

أي: أعبدك يا رب بما مضى بهذه الثلاث، بمحبتك ورجائك وخوفك وهذه الثلاث أركان العبادة، وصرفها لغير الله شرك.

فالعبادة: كمال المحبة، وكمال الخضوع والخوف والذل، وقدم المفعول وهو إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة؛ والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول: التبرؤ من الشرك، والثاني: التبرؤ من الحول والقوة، فقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي: إياك نوحد؛ ومعناه: أنك تعاهد ربك أن لا تشرك به في عبادته أحدا، لا ملكا ولا نبيا، ولا غيرهما، كما قال للصحابة:

{ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

وفيها من الفوائد: الرد على ثلاث الطوائف التي كل طائفة تعلق بواحدة منها، كمن عبد الله بالمحبة وحدها، وكذلك من عبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة، وكذلك من عبد الله بالخوف وحده كالخوارج.

وقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } هذا فيه أمران:

أحدهما: سؤال الإعانة، وهو التوكل، والتبري من الحول والقوة.

وأيضا: طلب الإعانة من الله كما مر أنها من نصف العبد.

فهي سؤال منك لمولاك سبحانه أن يعينك على أمور دينك ودنياك، ولا يكلك إلى نفسك، ولا إلى أحد من خلقه، وإخبار منك أنك لا تستعين إلا به تبارك وتعالى.

وأما قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }

تسأله تعالى أن يهديك إلى طريق الجنة، الذي لا اعوجاج فيه، الذي نصبه طريقا إليها، لا طريق لها إلا هو، وهو التوحيد والبراءة من الشرك وتوابعه، وذلك مع أداء الفرائض وترك المحارم.

فهذا هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا الطلب العظيم الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله: { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً }، والهداية هاهنا: التوفيق والإرشاد.

وليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم، والعمل الصالح، على وجه الاستقامة والكمال، والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله.

والصراط: الطريق الواضح، والمستقيم: الذي لا عوج فيه، والمراد بذلك: الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت دائما في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم.

وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنه هو المستقيم، وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج؛ وهذه أول الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب.

وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملا، وتركه مفصلا؛ فإن أكفر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى: { فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ }.

وأما قوله: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ

فالمغضوب عليهم هم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى.

وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يُقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات.

فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له ويفرض عليه أن يدعو به دائما، مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه يفعله ؟ ! هذا من ظن السوء بالله.

فإذا سلم العبد من آفة الجهل، وصار من أهل المعرفة، ثم سلم من آفة الفسق وعمل بما أمره الله به، صار من الذين أنعم الله عليهم، من أهل الصراط المستقيم.

وهذا الدعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة؛

أما جمعه لخير الآخرة فواضح.

وأما جمعه لخير الدنيا، فلأن الله تعالى يقول:

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

والإيمان والتقوى هو الصراط المستقيم، فقد أخبر أن ذلك سبب لفتح بركات السماء والأرض، هذا في الرزق.

وأما في النصر، فقد قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فأخبر الله أن العزة تحصل بالإيمان وهو الصراط المستقيم، فإذا حصل العز والنصر، وحصل فتح بركات السماء والأرض، فهذا خير الدنيا، والله أعلم.

فهذه السورة تضمنت الألوهية، والربوبية، ونفي النقائص عن الله، وتضمنت معرفة العبادة وأركانها، فكل آية منها لو يعلمها الإنسان صار فقيها، وكل آية أفرد معناها بالتصانيف، والله أعلم. هذا آخر الفاتحة.

وأما "آمين" فليست من الفاتحة، ولكنها تأمين على الدعاء، معناها: اللهم استجب، فالواجب تعليم الجاهل، لئلا يظن أنها من كلام الله، والله أعلم.


بداية المجلد الثالث عشر من الدرر السنية

القول الوجيز في وصف الصراط المستقيم

القول الوجيز في وصف الصراط المستقيم

قال ابن القيم رحمه اللّه تعالى:

ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزًا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه، وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد وهو طريق اللّه الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبوديته، ولا يشرك برسوله أحد في طاعته، فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهذا معنى قول بعض العارفين: إن السعادة كلها والفلاح كله مجموع في شيئين: صدق محبة، وحسن معاملة.

وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه.

فأي شيء فسر به الصراط المستقيم، فهو داخل في هذين الأصلين.

ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك كله، وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول اللّه، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث اللّه به رسوله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيَّتُها وقطب رحاها.

منقول من كتاب تيسير العزيز الحميد

في شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد

للشيخ العلامة

سلميان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله

ص 63

 

كمال الشريعة

كــمــال الـشـريـعــة

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان كمال الشريعة:

وهذا الأصل من أهمِّ الأصول وأنفعها، وهو مبنيٌّ على حرف واحد، وهو عمومُ رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كلِّ ما يحتاج إليه العبادُ في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنَّه لَم يُحْوِج أمَّتَه إلى أحد بعده، وإنَّما حاجتهم إلى مَن يبلِّغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرَّق إليهما تخصيصٌ؛ عمومٌ بالنسبة إلى المرسَل إليهم، وعمومٌ بالنسبة إلى كلِّ ما يَحتاج إليه مَن بُعث إليه في أصول الدِّين وفروعه، فرسالتُه كافيةٌ شافيةٌ عامَّة، لا تحوج إلى سواها، ولا يتمُّ الإيمانُ به إلاَّ بإثبات عمومِ رسالته في هذا وهذا، فلا يَخرج أحدٌ من المكلَّفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحقِّ الذي تحتاج إليه الأمَّة في علومها وأعمالها عمَّا جاء به، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يقلِّب جناحيه في السَّماء إلاَّ ذكَر للأمَّة منه علماً وعلَّمهم كلَّ شيء حتى آداب التخلِّي وآدابَ الجِماع والنوم، والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسَّفر والإقامة، والصَّمت والكلام، والعُزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووَصَفَ لهم العرشَ والكرسيَّ، والملائكة والجنَّ، والنار والجنة، ويوم القيامة وما فيه حتى كأنَّه رأيُ عَين، وعرَّفهم معبودَهم وإلَههم أتمَّ تعريف، حتى كأنَّهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعرَّفهم الأنبياء وأمَمَهم وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم، حتى كأنَّهم كانوا بينهم، وعرَّفهم مِن طُرق الخير والشرِّ دقيقَها وجليلَها ما لَم يعرِّفه نبيٌّ لأمَّته قبله، وعرَّفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النَّعيم والعذاب للروح والبدن، ما لَم يعرِّف به نبيٌّ غيرَه، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم من أدلَّةَ التوحيد والنبوة والمعاد، والردَّ على جميع فرق أهل الكفر والضلال، ما ليس لِمَن عرفه حاجة مِن بعده، اللهمَّ إلاَّ إلى مَن يبلِّغه إياه ويبيِّنه ويوضح منه ما خفي عليه، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم مِن مَكايد الحروب ولقاء العدوِّ وطرُق النَّصر والظَّفَر ما لو عَلِموه وعقِلُوه ورعَوْه حقَّ رعايَتِه لَم يقم لَهم عدوٌّ أبداً، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم مِن مكايد إبليس وطرُقِه التي يأتيهم منها، وما يتحرَّزون به مِن كيده ومَكرِه، وما يدفعون به شرَّه ما لا مَزيد عليه، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم مِن أحوال نفوسِهم وأوصافِها ودسائسِها وكمائِنها ما لا حاجة لهم مَعه إلى سِواه، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم مِن أمور مَعايشِهم ما لو عَلِموه وعمِلُوه لاستقامت لهم دنياهم أعظمَ استقامة.

وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برُمَّته، ولَم يُحْوِجْهُم الله إلى أحد سواه، فكيف يُظَنُّ أنَّ شريعتَه الكاملةَ التي ما طرق العالَم شريعةٌ أكملَ منها ناقصةٌ، تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكمِّلها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارجٍ عنها، ومَن ظنَّ ذلك فهو كمَن ظنَّ أنَّ بالناس حاجةً إلى رسول آخَر بعده، وسبَبُ هذا كله خفاءُ ما جاء به على مَن ظنَّ ذلك، وقلَّةُ نصيبه مِن الفَهم الذي وفَّق الله له أصحابَ نبيِّه الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عمَّا سواه، وفتحوا به القلوبَ والبلادَ، وقالوا: هذا عهدُ نبيِّنا إلينا، وهو عهدُنا إليكم.

من كتاب أعلام الموقعين (4/375 ـ 376)

العلم النافع وعلامات أهله

العلم النافع وعلامات أهله

مختصر من رسالة صغيرة

للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله المتوفى سنة 795

بعنوان:

"فضل علم السلف على علم الخلف"

قال ابن رجب رحمه الله بعد ذكره لجملة من العلوم:

فالعلم النافع من هذه العلوم كلها:

ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق، والمعارف وغير ذلك.

والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أوّلا.

ثمّ الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً.

وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشُغْلٌ لمن بالعلم النافع عُنِي واشتَغَل.

ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه؛ أعانه وهداه، ووفقه وسدده، وفهّمه وألهمه، وحينئذٍ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به، وهي خشية الله، كما قال عزوجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}...

وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين:

أحدهما: على معرفة اللَه وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة. وذلك يستلزم إجلاله، وإعظامه، وخشيته، ومهابته، ومحبته، ورجاءه، والتوكل عليه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه.

والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه؛ من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة اللَه ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه:

فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع، فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب فقد خشع القلب للَّه وانكسر له. وذل هيبة وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيما. ومتى خشع القلب للَّه وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا...

فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه؛ بحيث يجده قريباً منه، يستأنس به في خلوته، ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته. ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته. كما قيل لوهيب بن الورد: يجد حلاوة الطاعة من عصى؟ قال: لا، ولا من هم. ومتى وجد العبد هذا فقد عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة، فإذا سأله أعطاه، وإذا دعاه أجابه ...

فالعلم النافع ما عرف به العبد ربه، ودل عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحى من قربه، وعبده كأنه يراه...

ومن فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلي الله عليه وسلم: وصار علمه وبالا وحجة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنه لم يخشع قلبه لربه. ولم تشبع نفسه من الدنيا بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً. ولم يُسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه. وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه...

وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة في الدنيا، والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العلماء، ومماراة السفهاء، وصرف وجوه الناس إليه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن من طلب العلم لذلك فالنار النار.

وربما ادعى بعض أصحاب هذه العلوم معرفة الله وطلبه، والأعراض عما سواه وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغيرهم، وإحسان ظنهم بهم وكثرة اتباعهم. والتعاظم بذلك على الناس...

ومن علامات ذلك عدم قبول الحق والانقياد إليه، والتكبر على من يقول الحق خصوصاً إن كان دونهم في أعين الناس، والإصرار على الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق ...

ومن علامات أهل العلم النافع: أنهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقاما، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، قال الحسن: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المواظب على عبادة ربه ...

ومن علامات العلم النافع: أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا وأعظمها الرئاسة والشهرة والمدح فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع.

فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته بحيث أنه يخشى أن يكون مكراً واستدراجاً كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.

ومن علامات العلم النافع: أن صاحبه لا يدعى العلم، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها فإنه يتكلم فيه غضباً للَّه لا غضباً لنفسه ولا قصداً لرفعتها على أحد.

وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأرداها...

وأهل العلم النافع : يسيئون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها ...

ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلا على من تقدمه في المقال وتشقق الكلام ظن لنفسه عليهم فضلا في العلوم أو الدرجة عند اللَه لفضل خص به عمن سبق فاحتقر من تقدمه واجترأ عليه بقلة العلم ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إنما كان ورعا وخشية للَّه، ولو أراد الكلام وإطالته لما عجز عن ذلك...

فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلا ولا قصوراً وإنما كان ورعا وخشية للَّه واشتغالا عما لا ينفع بما ينفع ...

فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يُقذف في القلب يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.

وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصداً. وكان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه وقال (( إن من البيان سحراً )) وإنما قاله في ذم ذلك لا مدحاً له كما ظن ذلك من ظنه ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً (( أن اللَه ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها )) وفي المعنى أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة على عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك.

وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم.

قال ابن مسعود: إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه.

فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم.

والسلف أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك. وهذا هو الفقه والعلم النافع فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق [كابن المبارك، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، واسحق، وأبي عبيد، ونحوهم].

فضبط ما روي عنهم في ذلك أفضل العلم، مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه، وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه، إلا أن يكون شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم.

وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه. وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة.

فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة مالا يهتدى إليه من بعدهم ولا يلم يه.

فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم.

قال الأوزاعي: العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم.

وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله.

وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالماً عند اللَه ولا يرضى إلا بأن يكون عند أهل الزمان عالماً. فإن رضي بالأول فليكتف بعلم اللَه فيه. ومن كان بينه وبين اللَه معرفة اكتفى بمعرفة اللَه إياه: ومن لم يرض إلا بأن يكون عالماً عند الناس دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ فليتبوأ مقعده من النار)).

فنسأل اللَه تعالى علماً نافعاً، ونعوذ به من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع، اللهم إنّا نعوذ بك من هؤلاء الأربع.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.