أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

وازن بين الأمرين

وازن بين الأمرين

للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله

اللذة المحرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها، مثمرة للألم بعد انقضائها، فإذا اشتدت الداعية منك إليها ففكر في إنقطاعها، وبقاء قبحها، وألمها، ثم وازن بين الأمرين وانظر ما بينهما من التفاوت.

والتعب بالطاعة ممزوج بالحسن، مثمر للذة والراحة، فإذا ثقلت على النفس ففكر في انقطاع تعبها، وبقاء حسنها، ولذتها، وسرورها، ووازن بين الأمرين، وآثر الراجح على المرجوح، فإن تألمت بالسبب فانظر إلى ما في المسبب من الفرحة والسرور واللذة يهن عليك مقاساته، وإن تألمت بترك اللذة المحرمة فانظر إلى الألم الذي يعقبه ووازن بين الألمين. وخاصية العقل: تحصيل أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما، واحتمال أصغر الألمين لدفع أعلاهما.

وهذا يحتاج إلى علم بالأسباب ومقتضياتها وإلى عقل يختار به الأولى والأنفع له منها، فمن وفر قسمه من العقل والعلم أختار الأفضل وآثره، ومن نقص حظه منهما أو من أحدهما اختار خلافه، ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحداً منهما إلا بمشقة، فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما.

من كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم الجوزية

الرجل المبارك

الرجل المبارك

منقول من رسالة ابن القيم إلى أحد أخوانه

قال رحمه الله:

إن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخباراً عن المسيح عليه السلام: {واجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} أي معلماً للخير، داعياً إلى الله، مذكراً به، مرغباً في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تُمحق بركة من لقيه واجتمع به، فإنه يضيع الوقت في الماجَرَيَات [أي: الحوادث والأمور التي جرت أو تجري، مأخوذة من قولهم: جرى ماجرى]، وما يفسد القلب. وكل آفة تدخل على العبد، فسببها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده؛ ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تُضيع مخالطته الوقت، وتُفسد القلب، فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها، وكان مما قال الله فيه: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }.

ومن تأمل حال الخلق، وجدهم كلهم - إلا أقل القليل - ممن غفلت قولبهم عن ذكر الله تعالى، واتبعوا أهواءهم، وصارت أمورهم ومصالحهم {فرطا} أي: فرّطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم، بل يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.

وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسولَه ألا يطيعهم، فطاعة الرسول لا تتم إلا بعدم طاعة هؤلاء فإنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من اتباع الهوى، والغفلة عن ذكر الله.

والغفلة عن الله والدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى، تولد بينها كل شر. وكثير ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه.

ومن تأمل فساد أحوال العالم عموماً وخصوصاً، وجده ناشئاً عن هذين الأصلين، فالغفلة تحول بين العبد وبين تصوره الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين.

واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه، فيكون من المغضوب عليهم.

وأما المنعم عليهم فهم الذين منَّ الله عليهم بمعرفة الحق علماً، وبالانقياد إليه وإيثاره على ما سواه عملاً، وهؤلاء هم الذين على سبيل النجاة ، ومن سواهم على سبيل الهلاك [ قال علي رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق]. ولهذا أمرنا الله سبحانه أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }

فإن العبد مضطر كل الاضطرار إلى أن يكون عارفاً بما ينفعه في معاشه ومعاده، وأن يكون مؤثراً مريداً لما ينفعه، مجتنباً لما يضره. فبمجموع هذين يكون قد هدي إلى الصراط المستقيم. فإن فاته معرفة ذلك سلك سبيل الضالين، وإن فاته قصده واتباعه سلك سبيل المغضوب عيهم. وبهذا يُعرف قدر هذا الدعاء العظيم وشدة الحاجة إليه، وتَوَقُفُ سعادة الدنيا والآخرة عليه.

والعبد مفتقر إلى الهداية في كل لحظة ونَفَس، في جميع ما يأتيه ويذره، فإنه بين أمور لا ينفك عنها:

أحدها: أمور قد أتاها على غير وجه الهداية جهلاً، فهو محتاج إلى أن يطلب الهداية إلى الحق فيها.

أو يكون عارفاً بالهداية فيها، فأتها على غير وجهها عمداً، فهو محتاج إلى التوبة منها.

أو أمور لم يعرف وجه الهداية فيها علماً ولا عملاً، ففاته الهداية إلى علمها ومعرفتها، وإلى قصدها وإرادتها وعملها.

أو أمور قد هُدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها.

أو أمور قد هُدي إلى أصلها دون تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل.

أو طريق قد هُدي إليها، وهو محتاج إلى هداية أخرى فيها، فالهداية إلى الطريق شيء والهداية في نفس الطريق شيء آخر، ألا ترى أن الرجل يعرف أن طريق البلد الفلاني هو طريق كذا وكذا، ولكن لا يحسن أن يسلكه، فإن سلوكه يحتاج إلى هداية خاصة في نفس السلوك، كالسير في وقت كذا دون وقت كذا، وأخذ الماء من مفازة كذا مقدار كذا، والنزول في موضع كذا دون كذا، فهذه هداية في نفس السير قد يهملها من عارف بأن الطريق هي هذه، فيهلك وينقطع عن المقصود.

وكذلك أيضاً ثمَّ أمور هو محتاج إلى أن يحصل له فيها من الهداية في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي.

وأمور هو خال عن اعتقاد حق أو باطل فيها، فهو محتاج إلى هداية الصواب فيها.

وأمور يعتقد أنه فيها على هدى وهو على ظلالة ولا يشعر، فهو محتاج إلى انتقاله عن ذلك الاعتقاد بهداية من الله.

وأمور قد فعلها على وجه الهداية، وهو محتاج إلى أن يهدي غيره إليها ويرشده وينصحه، فإهماله ذلك يُفوِّت عليه من الهداية بحسبه كما أن هدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح له باب الهداية، فإنّ الجزاء من جنس العمل، فكلما هَدى غيره وعلمه هداه الله وعلمه فيصير هادياً مهدياً، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وغيره: ( اللهم زينا بزينه الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ...)

منقول من رسالة ابن القيم إلى أحد أخوانه

أقسام مخالطة الناس

أقسام مخالطة الناس

ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "بدائع الفوائد" عشرة أسباب يعتصم بها العبد من الشيطان (تُراجع للأهمية) وذكر منها:

الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة... ثم قال:

إن فضول المخالطة هي الداء العضال، الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول، ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام، متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر:

أحدها: منْ مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه، هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر: وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء؛ يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه؛ من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من:

القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء، على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه، فمنهم من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن؛ وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكّنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف، ومنهم من مخالطته كوجع الضرس، يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم، ومنهم من مخالطته حمى الروح؛ وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه، وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض، ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر" ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي وقال: "مجالسة الثقيل حمى الربع ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة" أو كما قال، وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.

القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين، وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين، وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا: أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا: أنت من المفتنين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين، وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا: أنت من الملبسين، وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله تعالى من الخاسرين وعندهم من المنافقين، فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل بإعتابهم ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضبهم، فإن عين كمالك كما قال:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص .... فهي الشهادة لي بأني فاضل

وقال آخر:

وقد زادني حبا لنفسي أنني .... بغيض إلى كل امريء غير طائل

فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم؛ وهي فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان؛ فقد أخذ بنصيبه من التوفيق، وسد على نفسه أبواب جهنم، وفتح عليها أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء، فعند الممات يحمد القوم التقي، وعند الصباح يحمد القوم السرى، والله الموفق، لا رب غيره، ولا إله سواه.

ملخص أقسام المخالطة:

مخالطة واجبة أو مستحبة: وهي للعلماء.

مخالطة للضرورة: وهي لمن لا يستغنى عنه لقضاء الحوائج ...

مخالطة عرضية لازمة: فيعاشر بالمعروف حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً.

مخالطة محرمة أو مكروهة: وهي لأهل البدع.

بدائع الفوائد" ص 274