مراتب المكلَّفين في الدار
الآخرة
وهم
ثمانِ عشرةَ طبقةً :
الطبقة الأولى
وهي
العليا على الإطلاق: مرتبة
الرسالة.
فأكرمُ الخلق على اللَّه وأخصُّهم بالزلفى لديه رسلُه، وهم المصطفون
من عباده الذين سلَّم عليهم في العالمين، كما قال
تعالى: ﴿وَسَلَامٌ
عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾.
فضلهم وشرفهم أنَّ اللَّه سبحانه اختصَّهم بوحيه، وجعلهم أُمَناءَ
على رسالته، ووسائط بينه وبين عباده، وخصَّهم بأنواع كرامته: فمنهم من اتخذه
خليلًا، ومنهم من كلَّمه تكليمًا، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات. ولم يجعل
لعباده وصولًا إليه إلا من طريقهم، ولا دخولًا إلى جنته إلا من خلفهم، ولم يكرم
أحدًا منهم بكرامة إلا على أيديهم؛ فهم أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة،
وأحبهم إليه وأكرمهم عليه.
وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنَّما ناله العباد على أيديهم. وبهم
عُرِفَ اللَّهُ، وبهم عُبدَ وأُطيع، وبهم حصلت محابّه تعالى في الأرض، وأعلاهم
منزلةً أولوَ العزم منهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا
بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ [الشورى
١٣].
وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق، وعليهم تدور الشفاعة حتى
يردّوها إلى خاتمهم وأفضلهم -صلى اللَّه عليه وسلم-.
الطبقة الثانية
من عداهم من الرسل على مراتبهم من تفضيلهم بعضهم على بعض.
الطبقة الثالثة
الأنبياء الذين لم يُرسَلوا إلى أُممهم، وإنَّما كانت لهم
النبوة دون الرسالة، فاختُصُّوا عن الأمة بإيحاءِ اللَّه إليهم، وإرساله ملائكته
إليهم، واختصَّت الرسلُ عنهم بإرسالهم إلى الأمة يدعونهم إلى اللَّه بشريعته
وأمره، واشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم.
الطبقة الرَّابعة
ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم،
وهم القائمون بما بُعثوا به علمًا وعملًا ودعوةً للخلق إلى اللَّه على طريقهم
ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة،
وهي مرتبة الصدِّيقية.
ولهذا
قرنهم اللَّه تعالى في كتابه بالأنبياء فقال: ﴿وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء ٦٩]،
فجعل درجةَ الصدّيقية تلي درجةَ النبوة. وهؤلاء هم الربَّانيون، وهم الراسخون
في العلم، وهم الوسائط بين الرسول ﷺ وأمته. فهم
خلفاؤه وأولياؤه وحزبُه وخاصَّتُه وحَمَلةُ دينه، وهم المضمون لهم أنَّهم لا
يزالون على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتَّى يأتي أمر اللَّه
وهم على ذلك.
ومرتبة الصدّيقين فوق مرتبة الشهداءِ، ولهذا قدّمهم عليهم في الآيتين هنا وفي سورة النساءِ. وهكذا جاءَ ذكرُهم مقدّمًا على الشهداءِ
في كلام النبيّ ﷺ في قوله: «اثبُتْ أُحدُ،
فإنّما عليك نبي وصدّيق وشهيدان» ولهذا كانت الصدّيقية وصفًا
لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وهو أبو بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه. ولو
كان بعد النبوة درجة أفضل من الصدّيقية لكانت لقبًا له رضي اللَّه عنه.
والمقصود أنَّ درجة الصدِّيقية والرَّبانية، ووراثة
النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأُمة. ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلّا أنّ
كلّ من علم بتعليمهم وإرشادهم أو علّم غيرَه شيئًا من ذلك كان لهم مثل أجره
ما دام ذلك جاريًا في الأمة على آباد الدهور. وقد صحّ عن النبيّ ﷺ أنّه
قال لعليّ بن أبي طالب: «واللَّهِ لأن يهدي
اللَّه بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعم»
وصحّ
عنه أنّه قال: «إذا مات
العبد انقطع عملُه إلّا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولدٍ صالحٍ
يدعو له»
وصحَّ
عنه أنَّه قال: «مَن
يُردِ اللَّهُ به خيرًا يُفقِّهْه في الدِّين»
وفي
السنن عنه أنَّه قال: «إنَّ
العالم يَسْتغفِر له مَن في السماوات ومَن في الأرضِ حتَّي النملة في جُحرِها»
وعنه ﷺ أنَّه قال: «إنَّ اللَّه وملائكته يصلّون على معلِّم
الناسِ الخيرَ»
وعنه ﷺ أنَّه قال: «إنَّ العلماء وَرثَة الأنبياء، وإنَّ
الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنَّما ورِّثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ
بحظٍّ وافر»
والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا، وقد ذكرنا مائتي
دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد. فيا لها من مرتبةٍ ما أعلاها، ومنقبةٍ ما أجلّها وأسناها، أن
يكون المرءُ في حياته مشغولًا ببعض أشغاله، أو في قبره قد صار أشلاءً متمزِّقة
وأوصالًا متفرِّقة، وصحفُ حسناته متزايدةٌ تملى فيها الحسنات كلَّ وقت، وأعمال
الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب. تلك -واللَّه- المكارم والغنائم! وفي ذلك
فليتنافس المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون! وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء،
واللَّه ذو الفضل العظيم.
وحقيق بمرتبةٍ هذا شأنُها أن تُنفَق نفائس الأنفاس عليها،
ويستبق السابقون إليها، وتوفَّر عليها الأوقات، وتتوجَّه نحوها الطلِبات.
فنسأل اللَّه الذي بيده مفاتيح كلّ خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل
هذه الصفة بمنِّه وكرمه.
وأصحاب هذه المرتبة يُدعَون عظماء في ملكوت السماءِ، كما قال بعض
السلف: «مَن عَلِم وعمِل وعلَّم فذلك يُدعي عظيمًا في ملكوت السماء»
وهؤلاء هم العدول حقًّا بتعديل رسول اللَّه ﷺ
لهم، إذ يقول فيما رُوي عنه من وجوه يُسنِد بعضها بعضًا «يحمل هذا العلمَ من
كلِّ خلَفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»
وما أحسن ما قال فيهم الإمام أحمد في خطبة كتابه "الردّ على
الجهمية": "الحمد للَّه الذي جعل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من
أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصّرون بنور اللَّه
أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه، ومن ضالٍّ جاهلٍ قد هدَوه. فما أحسن
أثرهم على النَّاس، وأقبح أثر الناس عليهم! ينفُون عن كتاب اللَّه تأويل الجاهلين،
وتحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلِين".
وذكر ابن وضَّاح هذا الكلام عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.
الطبقة الخامسة
أئمة العدل وولاته
الذين تأمَنُ بهم السبُل، ويستقيم بهم العالم، ويستنصر بهم الضعيف، ويذِلّ بهم
الظالم، ويأمن بهم الخائف، وتُقام بهم الحدود، ويُدفع بهم الفساد، ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقام بهم حكمُ الكتاب والسنَّة، وتُطفأ بهم نيران
البدع والضلالة.
وهؤلاء هم الذين تُنصَب لهم المنابر من النور عن يمين الرحمن
عزَّ وجلَّ يوم القيامة فيكونون عليها. والولاةُ الظلَمة قد صهرهم حرُّ الشمس، وقد
بلغ منهم العرَقُ مبلغه، وهم يحملون أثقال مظالمهم العظيمة على ظهورهم الضعيفة في
يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنةٍ، ثمَّ يُرى سبيل أحدهم إمَّا إلى الجنَّة
وإمَّا إلى النَّار.
قال النبيّ ﷺ: «المقسطون عند اللَّه على
منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن تبارك وتعالى، وكلتا يديه يمين، الذين
يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وَلُوا».
وعنه ﷺ: «إنَّ أحبَّ الخلق إلى اللَّه وأقربَهم منزلةً منه يوم
القيامة إمامٌ عادل، وإنَّ أبغض الخلق إلى اللَّه وأبعدَهم منه منزلةً يوم القيامة
إمامٌ جائر» أو كما قال.
وهم أحد السبعة الأصناف الذين يظلّهم اللَّه في ظل عرشه يوم لا ظلَّ
إلا ظلّه. وكما كان الناس في ظلّ عدلهم في الدنيا، كانوا هم في ظل عرش الرحمن
يوم القيامة ظلًّا بظلٍّ جزاءً وِفاقًا.
ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أنَّ أهل السماوات والأرض والطيرَ في
الهواءِ يصلّون عليهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم، وولاة الظلم يلعنهم مَن بين
السماء والأرض حتَّى الدوابّ والطير. كما أنَّ معلِّم الناسِ الخيرَ
يصلّي عليه اللَّه وملائكته، وكاتمُ العلم والهدى الذي أنزله اللَّه وحاملُ أهله
على كتمانه يلعنه اللَّه وملائكته ويلعنه اللاعنون.
فيا لها من منقبة ومرتبة ما أجلّها وأشرفها: أن
يكون الوالي والإمام على فراشه، وغيرُه يعمل بالخير، وتكتَب الحسناتُ في
صحائفه! فهي متزايدة ما دام يعمل بعدله، ولساعة واحدة منه خير من عبادة أعوام من
غيره! فأين هذا من صفة الغاشّ لرعيته، الظالم لهم، الذي
قد حرَّم اللَّه عليه الجنَّة وأوجب له النار!
الطبقة السادسة
المجاهدون في سبيل اللَّه،
وهم جند اللَّه الذين يقيم بهم دينه، ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم بيضة
الإسلام، ويحمي بهم حوزة الدين. وهم الذين يقاتلون أعداءَ اللَّه ليكون الدين كله
للَّه، وتكون كلمة اللَّه هي العليا، قد بذلوا أنفسهم في محبَّةِ اللَّه ونصرِ
دينه وإعلاء كلمته ودفع أعدائه. وهم شركاءُ لكل من يحمونه بسيوفهم، في أعمالهم
التي يعلَمونها، وإن تناءتْ ديارهم، ولهم مثل أجور مَن عَبَد اللَّه بسبب
جهادهم وفتوحهم، فإنَّهم كانوا هم السبب فيه. والشارع قد نزَّل المتسبّبَ منزلةَ
الفاعل التامّ في الأجر والوزر، ولهذا كان الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلال
لكلّ منهما بتسبّبه مثلُ أجر من اتَّبعه.
وقد تظافرت آيات الكتاب وتواترت نصوص السنَّة على الترغيب في
الجهاد، والحضِّ عليه، ومدحِ أهله، والإخبار عمَّا لهم عند ربِّهم من أنواع
الكرامات والعطايا الجزيلات. ويكفي في ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَي تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ﴾ [الصف:١٠] فتشوفت
النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التي الدالُّ عليها ربُّ العالمين
العليم الحكيم، فقال: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُم﴾.
فكأنَّ النفوس ضنَّت بحياتها وبقائها، فقال:
﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعْلَمُونَ﴾
يعني أنَّ الجهاد خير لكم من قعودكم طلبًا للحياة والسلامة.
فكأنَّها قالت: فما لنا في هذا الجهاد من الحظّ؟ فقال:
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ مع
المغفرة ﴿وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ﴾. فكأنّها قالت: هذا في
الآخرة فماذا لنا في الدنيا؟ فقال: ﴿وَأُخْرَى
تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فلله ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذبًا لها
وتسييرًا إلى ربِّها، وما ألطف موقعها من قلب كلّ محبّ! وما أعظم غنى القلب وأطيب
عيشَه حين تباشره معانيها! فنسأل اللَّه من فضله إنَّه جوادٌ كريم.
فهذه الدرجات الثلاث هي درجات
السبق، أعني درجة العلم والعدل والجهاد. وبها سبق الصحابة رضي اللَّه عنهم، وأدركوا مَن قبلهم، وفاتوا مَن بعدهم،
واستولوا على الأمد البعيد، وحازوا قصَبات العلى. وهم كانوا السبب في
بلوغ الإسلام إلينا وفي تعليم كلّ خير وهدى وسبب تُنال به السعادة والنجاة.
وهم أعدل الأمّة فيما وَلُوه، وأعظمُها جهادًا في سبيل اللَّه. والأمة في آثار
علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة، فلا ينال أحد منهم مسألةَ
علمٍ نافعٍ إلا على أيديهم ومن طريقهم ينالها، ولا يسكن بقعةً من الأرضِ آمنًا إلا
بسبب جهادهم وفتوحهم، ولا يحكم إمام ولا حاكم بعدل وهدًى إلا كانوا هم السبب في
وصوله إليه. فهم الذين فتحوا البلاد بالسيف، والقلوب بالإيمان، وعمروا
البلاد بالعدل، والقلوب بالعلم والهدي؛ فلهم من الأجر بقدر أجور الأمة إلى يوم
القيامة مضافًا إلى أجر أعمالهم التي اختصُّوا بها، فسبحان من يختص بفضله ورحمته
من يشاء. وإنَّما نالوا هذا بالعلم، والجهاد، والحكم بالعدل؛ وهذه مراتب السبق
التي يهبها اللَّه لمن يشاء من عباده.
الطبقة السابعة
أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى النَّاس
بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم، من تفريج كرباتهم، ودفع ضروراتهم، وكفايتهم
في مهمَّاتهم. وهم أحد الصنفين اللذين قال النبيّ ﷺ
فيهم: «لا حسد إلا في اثنتين : رجلٌ آتاه
اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها الناس، ورجلٌ آتاهُ اللَّه مالًا وسلَّطه على
هَلَكتِه في الحقِّ» يعني أنَّه لا ينبغي
لأحد أن يغبط أحدًا على نعمة ويتمنَّى مثلها إلا أحد هذين. وذلك لما فيهما من النفع
العام والإحسان المتعدِّي إلى الخلق: فهذا ينفعهم بعلمه، وهذا ينفعهم بماله.
"والخلق كلّهم
عيال اللَّه، وأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله" ولا ريبَ أنَّ هذين الصنفين من أنفع النَّاس
لعيال اللَّه، ولا يقوم أمر النَّاسِ إلا بهذين الصنفين، ولا يعمر العالم إلا بهما.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا
وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٢]
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[لبقرة: ٢٧٤].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾
[الحديد: ١٨]
وقال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٥]
وقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾
[الحديد: ١١]
فهذه الطبقات الأربعة من طبقات الأمة هم أهل
الإحسان والنفع المتعدِّي وهم: العلماءُ، وأئمة العدل، وأهل الجهاد، وأهل الصدقة
وبذل الأموال في مرضاة اللَّه. فهؤلاء ملوك الآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تملى
فيها الحسنات وهم في بطون الأرض، ما دامت آثارهم في الدنيا. فيا لها من نعمة ما
أجلَّها، وكرامة ما أعظمها! يختصُّ اللَّه بها من يشاء من
عباده.
الطبقة الثامنة
طبقة من
فتح اللَّه له بابًا من
أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة، والحجّ، والعمرة، وقراءة
القرآن، والصوم، والاعتكاف، والذكر ونحوها، مضافًا إلى أداء فرائض اللَّه عليه.
فهو جاهدٌ في تكثير حسناته، وملء صحيفته بها،
وإذا عمل خطيئة تاب إلى اللَّه منها. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من
عُمَّال الآخرة. ولكن ليس له إلا عمله، فإذا مات طويت صحيفته بموته.
فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضًا عند اللَّه.
الطبقة التاسعة
طبقة أهل النجاة. وهي طبقة
من يؤدِّي فرائض اللَّه، ويترك محارمه، مقتصرًا على ذلك، لا يزيد عليه ولا ينقص
منه. فلا يتعدَّى إلى ما حرَّم اللَّه عليه، ولا يزيد على ما فرَضَ عليه. وهذا
من المفلحين بضمان رسول اللَّه ﷺ لمن أخبره
بشرائع الإسلام، فقال: واللَّه
لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال: »أفلح إن صدق«.
وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على اللَّه تكفيرُ سيئاتهم، إذا أدّوا
فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه. قال
تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾
[النساء:٣١]. وصحَّ
عنه ﷺ أنه قال: »الصلواتُ الخمسُ ورمضان إلى رمضانَ والجمعةُ إلى الجمعةِ مكفِّراتٌ لما
بينهنَّ ما لم تُغْشَ كبيرةٌ«.
فإن غشي أهلُ هذه الطبقة كبيرةً، وتابوا منها توبةً نصوحًا، لم
يخرجوا من طبقتهم، وكانوا بمنزلة من
لا ذنب له.
فتكفير الصغائر يقع بشيئين:
أحدهما: الحسنات
الماحية،
والثاني: اجتناب
الكبائر.
وقد نصَّ عليهما سبحانه في كتابه، فقال: ﴿وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: ١١٤]. وقال: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١].
الطبقة العاشرة
طبقة قوم
أسرفوا على أنفسهم، وغَشُوا كبائرَ ما نهى اللَّه عنه، لكن
رُزِقُوا التوبة النصوحَ قبل الموت، فماتوا على توبة صحيحة. فهؤلاء ناجون من
عذاب اللَّه إمَّا قطعًا عند قوم، وإمَّا ظنًّا ورجاءً عند آخرين. وهم موكولون إلى المشيئة، ولكن نصوص القرآن والسنَّة تدلُّ على
نجاتهم وقبول توبتهم، وهو وعد وعدهم اللَّه إيَّاه، واللَّه لا يخلف الميعاد.
الطبقة الحادية عشرة
طبقة أقوام خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا،
فعملوا حسنات وكبائر، ولقوا اللَّه مُصرِّين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم
أغلب من سيّئاتهم، فإذا وُزِنتْ بها رجَحتْ كِفَّةُ الحسنات، فهؤلاء أيضًا ناجون
فائزون. قال
تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ٨ – ٩].
قال حذيفة وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما من الصحابة: يُحشَر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فمن رجحت
حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنَّة، ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل
النار، ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف.
وهذه الموازنة تكون بعد القصاص، واستيفاء المظلومين حقوقهم من
حسناته. فإذا بقي له شيء منها وزن هو وسيئاته.
لكن هنا
مسألة، وهي: إذا وزنت السيئات
بالحسنات فرجحت الحسنات، هل يُلغَى المرجوحُ جملةً، ويصير الأثر للراجح، فيثاب على
حسناته كلّها؛ أو يسقَط من الحسنات ما قابلها من السيئات المرجوحة، ويبقى التأثير
للرجحان، فيثاب عليه وحده؟
والراجح أن السيئات
تأثر في نقصان ثوابه، لا في حصول العقاب له ، فإنَّه لو اشتغل في زمن إيقاعها
بالحسنات لكان أرفع لدرجته وأعظم لثوابه.
الطبقة الثانية عشرة
قومٌ تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فتقابل أثراهما فتقاوما، فمنعتهم
حسناتهم المساوية من دخول النَّار، وسيئاتهم المساوية من دخول الجنَّة. فهؤلاء من
أهل الأعراف، لم يفضل لأحدهم حسنة يستحقّ بها الرحمة من ربّه، ولم يفضل عليه سيئة
يستحقّ بها العذاب.
وقد وصف اللَّه سبحانه أهل هذه الطبقة في سورة الأعراف -بعد أن ذكر
دخولَ أهل النارِ النارَ، وتلاعنَهم فيها، ومخاطبةَ أتباعهم لرؤسائهم، وردَّهم
عليهم؛ ثمَّ مناداة أهل الجنَّة أهلَ النار- فقال
تعالى: ﴿وَبَيْنَهُمَا
حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ
يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف/ ٤٦ – ٤٧].
فقوله تعالى: ﴿وَبَيْنَهُمَا
حِجَابٌ﴾ أي: بين أهل الجنَّة والنار
حجاب. قيل: هو السور الذي ضُرِب بينهم، له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب.
باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذي يلي الكفار
من جهته العذاب. و"الأعراف" جمع عُرْف، وهو المكان المرتفع،
وهي سور عال بين الجنَّة والنار. قيل: هو هذا
السور الذي يضرب بينهم.
وقيل: جبال
بين الجنَّة والنَّار عليها أهل الأعراف. قال حذيفة وعبد اللَّه بن عباس: هم
قومٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتُهم
عن النار. فوقفوا هناك حتى يقضي اللَّه فيهم ما يشاء، ثمَّ يدخلهم الجنَّة بفضل
رحمته
فهؤلاء الطبقات هم
أهل الجنَّة الذين لم تمسّهم النار.
الطبقة الثالثة
عشرة
طبقة أهل المحنة والبلية،
نعوذ باللَّه، وإن كانت آخرتهم إلى عفو وخير. وهم قوم مسلمون خفَّت موازينهم،
ورجححت سيئاتهم على حسناتهم، فغلبتها السيئات. فهذه الطبقة هي التي اختلفت
فيها أقاويل الناس، وكثُر فيها خوضهم، وتشعَّبت مذاهبهم، وتشتّتت آراؤهم.
فطائفة كفَّرتهم، وأوجبت لهم الخلود في النار. وهذا مذهب أكثر
الخوارج، بل يكفّرون من هو أحسن حالًا منهم، وهو مرتكب الكبيرة الذي لم يتب منها،
ولو استغرقتها حسناتُه.
وطائفة أوجبت لهم الخلود في النار، ولم تُطْلِقْ عليهم اسمَ الكفر،
بل سمّوهم منافقين. وهذا المذهب ينسب إلى البكرية أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد.
وطائفة نزَّلتهم منزلةً بين منزلتي الكفار والمؤمنين، فجعلوا
أقسام الخلق ثلاثةً: مؤمنين، وكفَّارًا،
وقسمًا لا مؤمنين ولا كفَّارًا، بل بينهما، وأوجبت لهم الخلود في النَّار. وهذا هو
الرَّأي الذي أصفَقَ عليه أهلُ الاعتزال، وهو أحد أصولهم الخمس التي هي
قواعد مذهبهم.
فهذه ثلاث فرق توجب لهذه الطبقة الخلود في النار.
وقول الصحابة والتابعين وأئمة الحديث لا يعرفونه
ولا يحكونه، وهو الذي ذكرناه عن ابن عبَّاس وحذيفة وابن مسعود رضي اللَّه عنهم
أنَّ من ترجَّحت سيئاته بواحدة دخل النَّار.
وهؤلاء هم القسم الذين جاءت فيهم الأحاديث الصحيحة
الثابتة عن رسول اللَّه ﷺ بأنَّهم يدخلون النَّار، فيكونون
فيها على مقدار أعمالهم: فمنهم من تأخذه
النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى
ركبتيه. ويلبثون فيها على قدر أعمالهم، ثمَّ يخرجون منها، فينبتون على أنهار
الجنَّة، فيُفيض عليهم أهل الجنَّة من الماءِ حتَّى تنبت أجسادهم، ثمَّ يدخلون
الجنة. وهم الطبقة الذين
يخرجون من النَّار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأمر اللَّه تعالى سيِّد الشفعاء
مرارًا أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان والسنَّة يدلّ على ما قاله أفضلُ
الأمة وأعلمُها باللَّه وكتابه وأحكامِ الدارين أصحابُ محمد -صلى اللَّه عليه
وسلم-. والعقل والفطرة تشهد له، وهو مقتضى حكمة العزيز الحكيم الذي بهرت
حِكَمه العقول.
الطبقة الرَّابعة عشرة
قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، وهؤلاء
أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها
بخبر. ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئًا ولا يميّز. ومنهم الأصمّ الذي لا يسمع
شيئًا أبدًا. ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميّزوا شيئًا، فاختلفت
الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافًا كثيرًا. والمسألة التي وسَّعوا فيها الكلام هي
مسألة أطفال المشركين.
وأمَّا أطفال المسلمين، فقال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحد. يعني أنَّهم في الجنَّة.
وقد نقل عن ابن عباس ومحمد ابن الحنفية والقاسم بن
محمد وغيرهم أنَّهم كرهوا الكلام في هذه المسألة جملةً.
الطبقة الخامسة عشرة
طبقة الزنادقة. وهم قومٌ
أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة اللَّه ورسله. وهؤلاء
هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النَّار. قال
تعالى: ﴿إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيرًا﴾ [النساء:
١٤٥]. فالكفَّار المجاهرون بكفرهم أخفّ، وهم فوقهم في
دركات النَّار؛ لأنَّ الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة اللَّه ورسله،
وزادت المنافقون عليهم بالكذب والنفاق. وبليّة المسلمين بهم أعظم منن
بليَّتهم بالكفَّار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقّهم: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾
[المنافقون: ٤].
وبحسب إيمان العبد ومعرفته، يكون خوفه أن يكون من
أهل هذه الطبقة. ولهذا اشتدَّ خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم أن يكونوا
منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول: يا حذيفة نشدتك اللَّهَ، هل سمَّاني رسول اللَّه ﷺ مع القوم؟ فيقول: لا، ولا
أزكّي بعدك أحدًا. يعني لا أفتح عليَّ هذا الباب في تزكية الناس. ليس معناه
أنَّه لم يبرأ من النفاق غيرك.
وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ
ثلاثين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلّهم يخاف النفاق على نفسه، ما
منهم أحد يقول: إنَّه
على إيمان جبريل وميكائيل.
الطبقة السادسة عشرة
طبقة رؤساءِ الكفر وأئمته ودعاته
الذين كفروا وصدّوا عباد اللَّه عن الإيمان وعن الدخول في دينه رغبةً ورهبةً.
فهؤلاء عذابهم مضاعَف، ولهم عذابان: عذاب الكفر، وعذاب بصدِّ النَّاس عن الدخول في
الإيمان. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾
[النحل/ ٨٨]. فأحد
العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدّهم عن سبيل اللَّه.
وقد استقرَّت حكمة اللَّه وعدله أن يجعل على الداعي إلى الضلال مثل
آثام من اتبعه واستجاب له. ولا ريبَ أنَّ عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتَّبعه
وضلَّ به. وهذا النوع في الأشقياء مقابل دعاة الهدى في السعداء، فأولئك يتضاعف
ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتَّبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم.
لا ريب أنَّ الكفر يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر. كما
أنَّ الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من إيمان. فكما أنَّ المؤمنين ليسوا في درجة
واحدة بل هم درجات عند اللَّه، فكذلك الكفار ليسوا في طبقة واحدة ودرك واحد، بل
النار دركات كما أنَّ الجنَّة درجات. ولا يظلم اللَّه من خلقه أحدًا. وهو الغني
الحميد.
الطبقة السابعة عشرة
طبقة المقلّدين. وهم جهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبع، يقولون: إنا وجدنا آباءَنا
على أُمّة، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غيرُ محاربين لهم،
كنساءِ المحاربين وخدَمهم وتُبّاعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك
أنفسهم من السعي في إطفاءِ نور اللَّه وهدم دينه وإخماد
كلماته، بل هم معهم بمنزلة الدوابّ.
وقد اتفقت الأُمّة على أنّ هذه الطبقة كفّار وإن كانوا جهّالًا
مقلّدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلَّا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنّه لم يحكم لهؤلاءِ
بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة. وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة
المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا مَن بعدهم، وإنّما يعرف عن بعض أهل الكلام
المحدَث في الإسلام.
الطبقة الثامنة عشرة
طبقة الجنّ. وقد اتفق المسلمون على أنَّ منهم المؤمن، والكافر والبرّ
والفاجر. قال تعالى إخبارًا عنهم: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ
ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجن:
١١] قال مجاهد: يعنُون: مسلمين وكافرين. وقال الحسن والسدّي: أمثالكم،
فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة. وقال سعيد بن
جبير: ألوانًا شتَّى. وقال ابن كيسان: شِيَعًا وفِرَقًا. ومعنى الكلام: أصنافًا مختلفةً
ومذاهب متفرِّقة.
فهذا ما وصل إليه الإحصاءُ من طبقات المكلّفين في
الدار الآخرة، وهي ثمان عشرة طبقة، وكلّ طبقة منها لها أعلى وأدنى ووسط،
وهم درجات عند اللَّه. واللَّه تعالى يحشر الشكل مع شكله والنظير مع نظيره، ويقرن بينهما
في الدرجة.
قال تعالى: ﴿احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ﴾ [الصافات: ٢٢ – ٢٣]. قال الإمام أحمد
وقبله عمر بن الخطاب: أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم.
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧] روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنَّه سئل عن هذه الآية
فقال: يُقرَن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنَّة، ويُقرَن
بين الرجل السَّوء مع الرجل السَّوء في النَّار . وقال الحسن وقتادة: يلحق كل امرئ بشيعته، اليهودي باليهودي،
والنصراني بالنصراني. وقال الربيع بن خُثيَم: حشر الرجل مع صاحب عمله.
والحمد للَّه ربِّ العالمين. وصلَّى اللَّه على
محمد وآله.
مختصر من كتاب طريق
الهجرتين ( آخر الكتاب )
-۞ أقرأ أيضاً ::
▪ |
الإمام ابن قيم
الجوزية |
|
▪ |
الإمام الشاطبي |
|
▪ |
الإمام الآجري |
|
▪ |
الإمام ابن قيم
الجوزية |
|
▪ |
الإمام ابن قيم
الجوزية |
-