أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

مَثلُ نورِ الله في قلبِ عبدهِ المؤمِنْ

مَثلُ نورِ الله في قلبِ عبدهِ المؤمِنْ

للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله

ضرب الله سبحانه وتعالى النور في قلب عبده مثلاً لا يعقله إلا العالمون، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قال أبيُّ بنُ كعب : «مَثَلُ نُورِه في قلب المسلم ».

وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه مِنْ معرفته ومحبته والإيمان به وذكره، وهو نوره الذي أنزله إليهم، فأحياهم به، وجعلهم يمشون به بين الناس، وأصلُه في قلوبهم، ثم تَقْوَى مادته، وتتزايد حتى تظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل ثيابهم ودُورهم، يُبْصِرُه مَنْ هو مِنْ جنسهم، وسائر الخلق له منكرون.

فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بأيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجِسْر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا، فمنهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجم، وآخر كالسراج، وآخر يُعْطَي نوراً على إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذ كانت هذه حال نوره في الدنيا، فأُعْطِىَ على الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عياناً، ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا، بل كان نوره ظاهراً، لا باطناً = أُعطِى نوراً ظاهراً مآله إلى الظلمة والذَّهاب.

وضرب الله عز و جل لهذا النور، ومحلِّه، وحامله، ومادته مثلاً بالمشكاة، وهي الكُوَّة في الحائط، فهي مثل الصَّدْرِ، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج، وحتى شُبِّهت بالكوكب الدُّرِّيِّ في بياضه وصفائه، وهي مثل القلب، وشُبِّه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافا هي في قلب المؤمن، وهي: الصفاء، والرقة، والصلابة، فيرى الحق والهدى بصفائه، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة بِرقَّتِه، ويجاهد أعداء الله تعالى، ويغلظ عليهم، ويشتد في الحق، ويصلب فيه بصلابته، فلا تُبْطِل صفةٌ منه صفةً أخرى، ولا تعارضها، بل تساعدها وتُعاضِدُها، ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ وقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.

وفي أثرٍ: «القُلوبُ آنيةُ الله تعالى في أرْضه، فَأحَبُّها إليْهِ أرَقُّها، وَأصْلَبُها، وَأصْفَاها».

وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض :

أحدهما : قلبٌ حَجَرِيٌّ قاسٍ لا رحمة فيه، ولا إحسان ولا بِرّ، ولا له صفاء يَرى به الحق، بل هو جبارٌ جاهل؛ لا عالمٌ بالحق ولا راحمٌ للخلق.

وبإزائه : قلبٌ ضعيف مائيّ، لا قوة فيه، ولا استمساك، بل يَقْبَل كل صورة، وليس له قوة حفظ تلك الصُّور، ولا قوة التأثير في غيره، وكلُّ ما خالطه أثَّر فيه، من قويٍّ وضعيف، وطيِّبٍ خبيث.

وفي الزجاجة مصباح، وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته، ولذلك النورِ مادّةٌ، وهي زيتٌ قد عُصِر من زيتونةٍ في أعدل الأماكن، تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فزيتُها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر، حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار، فهذه مادة نور المصباح.

وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن، هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة، وأبعدها من الانحراف، بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية، بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء، فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.

ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار، فاشتدت بها إضاءته، وقويت مادةُ ضوءِ النار به = كان ذلك نوراً على نور.

وهكذا المؤمن قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكنْ لا مادة له من نفسه، فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه، وخالطت بشاشته، فازداد نورا بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه، فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة، نورٌ على نور، فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه أثراً، ثم يسمع الأثر مطابقاً لما شهدت به فطرته، فيكون نوراً على نور، فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملاً، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلاً، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي والفطرة.

فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة، ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة، فَذَكَر سبحانه وتعالى نورَه في السموات والأرض، ونورَه في قلوب عباده المؤمنين، النورَ المعقولَ المشهودَ بالبصائر والقلوب، والنورَ المحسوسَ المشهود بالأبصارِ، الذي استنارت به أقطار العالم العُلْوي والسُّفْلِي، فهما نوران عظيمان، أحدهما أعظم من الآخر.

وكما أنه إذا فُقِد أحدهما من مكان أو موضع، لم يَعِشْ فيه آدميُّ ولا غيرُه؛ لأن الحيوان إنما يتكوَّن حيثُ النور، ومواضعُ الظلمة التي لا يشرق عليها نورٌ لا يعيشُ فيها حيوانٌ، ولا يتكوَّنُ ألبته = فكذلك أمة فُقِد منها نور الوحي والإيمان ميتة، وقلبٌ فُقِد منه هذا النور ميّتٌ ولا بُدّ، لا حياة له ألبتة، كما لا حياة للحيوان في مكانٍ لا نور فيه.

من كتاب الوابل الصيب 119

-۞ أقرأ أيضاً ::

محركات القلوب إلى الله

شيخ الإسلام ابن تيمية

أشعة: لا إله إلا الله

الإمام ابن قيم الجوزية

قلبك إن لم تملئه بالحق امتلاء بالباطل

الإمام ابن قيم الجوزية

مثلٌ قلَّ والله من يَعْقِلُه

العلامة ابن سعدي

تجلِّياتُ الله في القرآن

الإمام ابن قيم الجوزية

صفة القلب السليم

الإمام ابن قيم الجوزية

-

أنواع الأقلام

أنـــواع الأقـــلام

قال ابن القيم رحمه الله:

الأقلام متفاوتة في الرتب؛ فأعلاها وأجلها قدراً: قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق، كما في سنن أبي داود، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: « إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب قال : يا رب وما أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ».

القلم الثاني: قلم الوحي وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله، وأصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم، والعالَم خدم لهم، وإليهم الحل والعقد، والأقلام كلها خدم لأقلامهم، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام: فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسفلي.

والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله؛ وهو قلم الفقهاء والمفتين، وهذا القلم أيضا حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق، وأصحابه مخبرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حكام وملوك على أرباب الأقلام وأقلام العالم خدم لهذا القلم.

القلم الرابع: قلم طب الأبدان التي تحفظ بها صحتها الموجودة، وترد إليها صحتها المفقودة، وتدفع به عنها آفاتها وعوارضها المضادة لصحتها، وهذا القلم أنفع الأقلام بعد قلم طب الأديان، وحاجة الناس إلى أهله تلتحق بالضرورة.

القلم الخامس: التوقيع عن الملوك ونوابهم وسياسة الملك، ولهذا كان أصحابه أعز أصحاب الأقلام، والمشاركون للملوك في تدبير الدول، فإن صلحت أقلامهم صلحت المملكة، وإن فسدت أقلامهم فسدت المملكة، وهم وسائط بين الملوك ورعاياهم.

القلم السادس: قلم الحساب وهو القلم الذي تضبط به الأموال مستخرجها ومصروفها ومقاديرها، وهو قلم الأرزاق وهو قلم الكم المتصل والمنفصل؛ الذي تضبط به المقادير وما بينها من التفاوت والتناسب، ومبناه على الصدق والعدل، فإذا كذب هذا القلم وظلم فسد أمر المملكة.

القلم السابع: قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق، وتنفذ به القضايا، وتراق به الدماء، وتؤخذ به الأموال والحقوق من اليد العادية فترد إلى اليد المحقة، ويثبت به الإنسان وتنقطع به الخصومات، وبين هذا القلم وقلم التوقيع عن الله عموم وخصوص فهذا له النفوذ واللزوم وذاك له العموم والشمول، وهو قلم قائم بالصدق فيما يثبته، وبالعدل فيما يمضيه وينفذه.

القلم الثامن: قلم الشهادة وهو القلم الذي تحفظ به الحقوق، وتصان عن الإضاعة، وتحول بين الفاجر وإنكاره، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويشهد للمحق بحقه، وعلى المبطل بباطله، وهو الأمين على الدماء والفروج والأموال والأنساب والحقوق، ومتى خان هذا القلم فسد العالم أعظم فساد، وباستقامته يستقيم أمر العالم، ومبناه على العلم وعدم الكتمان.

القلم التاسع: قلم التعبير وهو كاتب وحي المنام وتفسيره وتعبيره وما أريد منه، وهو قلم شريف جليل مترجم للوحي المنامي، كاشف له، وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدين، وهو يعتمد طهارة صاحبه ونزاهته وأمانته، وتحريه للصدق والطرائق الحميدة والمناهج السديدة، مع علم راسخ، وصفاء باطن، وحسن مؤيد بالنور الإلهي، ومعرفة بأحوال الخلق وهيئاتهم وسيرهم، وهو من ألطف الأقلام وأعمها جولانا، وأوسعها تصرفا، وأشدها تشبثا بسائر الموجودات: علويها وسفليها وبالماضي والحال والمستقبل فتصرف هذا القلم في المنام هو محل ولايته وكرسي مملكته وسلطانه.

القلم العاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه وهو القلم الذي تضبط به الحوادث، وتنقل من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، فيحصر ما مضى من العالم وحوادثه في الخيال، وينقشه في النفس حتى كأن السامع يرى ذلك ويشهده، فهو قلم المعاد الروحاني، وهذا القلم قلم العجائب؛ فإنه يعيد لك العالم في صورة الخيال فتراه بقلبك وتشاهد ببصيرتك.

القلم الحادي عشر: قلم اللغة وتفاصيلها من شرح المعاني ألفاظها، ونحوها وتصريفها، وأسرار تراكيبها، وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهها وأنواع دلالتها على المعاني وكيفية الدلالة، وهو قلم التعبير عن المعاني باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها وأسهلها وأوضحها، وهذا القلم واسع التصرف جدا بحسب سعة الألفاظ وكثرة مجاريها وتنوعها.

القلم الثاني عشر: القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين، على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم، وخروجهم عن الحق، ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل، المحاربون لأعدائهم، وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل، وعدو لكل مخالف للرسل، فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن.

من كتاب التبيان في أقسام القرآن ص 128

-۞ أقرأ أيضاً ::

-