أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

شرح 10 أدلة للحجاب من الكتاب والسنة

شرح 10 أدلة للحجاب من الكتاب والسنة

من رسالة الحجاب للعلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

اعلم أيها المسلم أن احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب دل على وجوبه كتاب ربك تعالى، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلّم:

أولاً: أدلة القرآن

الدليل الأول:

قوله تعالى: { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُنَّ أَوِ التَّـبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. (النور: 31).

وبيان دلالة هذه الآية على وجوب الحجاب على المرأة عن الرجال الأجانب من وجوه:

1- أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن والأمر بحفظ الفرج أمر به وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل أن من وسائله تغطية الوجه؛ لأن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك، وبالتالي إلى الوصول والاتصال. وفي الحديث: «العينان تزنيان وزناهما النظر». إلى أن قال: «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه». فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأموراً به؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.

2- قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُنَّ أَوِ التَّـبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. فإن الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدفة فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها، إما لأنه من لازم ذلك، أو بالقياس فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة. فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه، فإذا كان جميلاً لم ينظروا إلى ما سواه نظراً ذا أهمية. ولذلك إذا قالوا فلانة جميلة لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلباً وخبراً، فإذا كان كذلك فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر والنحر ثم ترخص في كشف الوجه.

3- إن الله تعالى نهى عن إبـداء الزينة مطلقاً إلا ما ظهـر منها، وهي التي لاَ بُدَّ أن تظهر كظاهر الثياب ولذلك قـال: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُنَّ أَوِ التَّـبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لم يقل إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى. فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.

4- أن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولي الإربة من الرجال وهم الخدم الذين لا شهوة لهم، وللطفل الصغير الذي لم يبلغ الشهوة ولم يطلع على عورات النساء فدل هذا على أمرين:

أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين.

الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة فيكون ستره واجباً لئلا يفتتن به أولوا الإربة من الرجال.

5- قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

يعني لا تضرب المرأة برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به للرجل، فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفاً من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه فكيف بكشف الوجه.

فأيما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالاً بقدم امرأة لا يدري ما هي وما جمالها؟! لا يدري أشابة هي أم عجوز؟! ولا يدري أشوهاء هي أم حسناء؟! أيهما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر إلى وجهٍ سافرٍ جميل ممتلئ شباباً ونضارة وحسناً وجمالاً وتجميلاً بما يجلب الفتنة ويدعو إلى النظر إليها؟! إن كل إنسان له إربة في النساء ليعلم أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإخفاء.

الدليل الثاني:

قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّـتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَـتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }. (النور: 60).

وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة:

أن الله تعالى نفى الجناح وهو الإثم عن القواعد وهن العواجز اللاتي لا يرجون نكاحاً لعدم رغبة الرجال بهن لكبر سنهن. نفى الله الجناح عن هذه العجائز في وضع ثيابهن بشرط أن لا يكون الغرض من ذلك التبرج بالزينة. ومن المعلوم بالبداهة أنه ليس المراد بوضع الثياب أن يبقين عاريات، وإنما المراد وضع الثياب التي تكون فوق الدرع ونحوه مما لا يستر ما يظهر غالباً كالوجه والكفين فالثياب المذكورة المرخص لهذه العجائز في وضعها هي الثياب السابقة التي تستر جميع البدن وتخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشواب اللاتي يرجون النكاح يخالفنهن في الحكم، ولو كان الحكم شاملاً للجميع في جواز وضع الثياب ولبس درع ونحوه لم يكن لتخصيص القواعد فائدة.

وفي قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَـتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }. دليل آخر على وجوب الحجاب على الشابة التي ترجو النكاح؛ لأن الغالب عليها إذا كشفت وجهها أن تريد التبرج بالزينة وإظهار جمالها وتطلع الرجال لها ومدحهم إياها ونحو ذلك، ومن سوى هذه نادرة والنادر لا حكم له.

الدليل الثالث:

قوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِيُُّ قُل لاَِزْوَجِكَ وَبَنَـتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }. (الأحزاب: 59).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة». وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء أنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وقوله رضي الله عنه «ويبدين عيناً واحدة» إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق فأما إذا لم يكن حاجة فلا موجب لكشف العين.

والجلباب هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة. قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: «خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها». وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن من أجل رؤية الطريق.

الدليل الرابع:

قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً }. (الأحزاب: 55).

قال ابن كثير رحمه الله:

لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بيّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُنَّ أَوِ التَّـبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. الآية.

فهذه أربعة أدلة من القرآن الكريم تفيد وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب، والآية الأولى تضمنت الدلالة عن ذلك من خمسة أوجه.

ثانياً: أدلة السنة

الدليل الأول:

قوله صلى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة وإن كانت لا تعلم». رواه أحمد.

قال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلّم، نفى الجناح وهو الإثم عن الخاطب خاصة إذا نظر من مخطوبته بشرط أن يكون نظره للخطبة، فدل هذا على أن غير الخاطب آثم بالنظر إلى الأجنبية بكل حال، وكذلك الخاطب إذا نظر لغير الخطبة مثل أن يكون غرضه بالنظر التلذذ والتمتع به نحو ذلك.

فإن قيل: ليس في الحديث بيان ما ينظر إليه. فقد يكون المراد بذلك نظر الصدر والنحر فالجواب أن كل أحد يعلم أن مقصود الخاطب المريد للجمال إنما هو جمال الوجه وما سواه تبع لا يقصد غالباً. فالخاطب إنما ينظر إلى الوجه لأنه المقصود بالذات لمريد الجمال بلا ريب.

الدليل الثاني:

أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لتلبسها أختها من جلبابها». رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة أن لا تخرج المرأة إلا بجلباب، وأنها عند عدمه لا يمكن أن تخرج. ولذلك ذكرن رضي الله عنهن هذا المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، حينما أمرهن بالخروج إلى مصلى العيد فبين النبي صلى الله عليه وسلّم، لهن حل هذا الإشكال بأن تلبسها أختها من جلبابها ولم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب، مع أن الخروج إلى مصلى العيد مشروع مأمور به للرجال والنساء، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب فيما هو مأمور به فكيف يرخص لهن في ترك الجلباب لخروج غير مأمور به ولا محتاج إليه؟! بل هو التجول في الأسواق والاختلاط بالرجال والتفرج الذي لا فائدة منه. وفي الأمر بلبس الجلباب دليل على أنه لابد من التستر. والله أعلم.

الدليل الثالث:

ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس. وقالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها. وقد روى نحو هذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

والدلالة في هذا الحديث من وجهين:

أحدهما: أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون، وأكرمها على الله عز وجل، وأعلاها أخلاقاً وآداباً، وأكملها إيماناً، وأصلحها عملاً فهم القدوة الذين رضي الله عنهم وعمن اتبعوهم بإحسان، كما قال تعالى: {وَالسَّـبِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـجِرِينَ وَالأَنْصَـرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }. (التوبة: 100). فإذا كانت تلك طريقة نساء الصحابة فكيف يليق بنا أن نحيد عن تلك الطريقة التي في اتباعها بإحسان رضى الله تعالى عمن سلكها واتبعها، وقد قال الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }. (النساء: 115).

الثاني: أن عائشة أم المؤمنين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وناهيك بهما علماً وفقهاً وبصيرة في دين الله ونصحاً لعباد الله أخبرا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لو رأى من النساء ما رأياه لمنعهن من المساجد، وهذا في زمان القرون المفضلة تغيرت الحال عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم، إلى حد يقتضي منعهن من المساجد. فكيف بزماننا هذا بعد نحو ثلاثة عشر قرناً وقد اتسع الأمر وقل الحياء وضعف الدين في قلوب كثير من الناس؟!

وعائشة وابن مسعود رضي الله عنهما فَهِمَا ما شهدت به نصوص الشريعة الكاملة من أن كل أمر يترتب عليه محذور فهو محظور.

الدليل الرابع:

أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». فقالت أم سلمة فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: «يرخينه شبراً». قالت إذن تنكشف أقدامهن. قال: «يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه».

ففي هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة وأنه أمر معلوم عند نساء الصحابة رضي الله عنهم، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب. فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه وما هو أولى منه بالحكم، وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة ويرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه.

الدليل الخامس:

قوله صلى الله عليه وسلّم: «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه». رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.

وجه الدلالة من هذا الحديث:

أنه يقتضي أن كشف السيدة وجهها لعبدها جائز مادام في ملكها فإذا خرج منه وجب عليها الاحتجاب لأنه صار أجنبياً فدل على وجوب احتجاب المرأة عن الرجل الأجنبي.

الدليل السادس:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها. فإذا جاوزونا كشفناه»، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

ففي قولها: «فإذا جاوزونا» تعني الركبان «سدلت إحدانا جلبابها على وجهها» دليل على وجوب ستر الوجه لأن المشروع في الإحرام كشفه، فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفاً. وبيان ذلك أن كشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند الأكثر من أهل العلم والواجب لا يعارضه إلا ما هو واجب، فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عن الأجانب ما ساغ ترك الواجب من كشفه حال الإحرام، وقد ثبت في الصحيحين وغيرها أن المرأة المحرمة تنهى عن النقاب والقفازين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن.

فهذه ستة أدلة من السنة على وجوب احتجاب المرأة وتغطية وجهها عن الرجال الأجانب أضف إليها أدلة القرآن الأربعة تكن عشرة أدلة من الكتاب والسنة.

 

من أنواع التسليط

من أنواع التسليط

الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله

كتاب: مفتاح دار السعادة

[تسليط الضعيف على القوي]

الجراد جند من جنود الله، ضعيف الخلقة، عجيب التركيب، فيه خلق سبع حيوانات؛ فإذا رأيت عساكره قد أقبلت أبصرت جنداً لا مرد له، ولا يحصى منه عدد ولا عدة، فلو جَمَعَ الملِك خَيلَهُ ورَجِلَهُ ودوابه وسلاحه ليصده عن بلده لمَاَ أمكنه ذلك، فانظر كيف ينساب على الأرض كالسيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته، ويسد وجه السماء بأجنحته، ويبلغ من الجو إلى حيث لا يبلغ طائر أكبر جناحين منه.

فسل المعطل: من الذي بعث هذا الجند الضعيف الذي لا يستطيع أن يرد عن نفسه حيوانا رامَ أخذه؟ بعثه على العسكر أهل القوة والكثرة والعدد والحيلة فلا يقدرون بأجمعهم على دفعه، بل ينظرون إليه يستبدُّ بأقواتهم دونهم، ويمزقها كل ممزق، ويذر الأرض قفرا منها، وهم لا يستطيعون أن يردوه ولا يحولوا بينه وبينها.

وهذا من حكمته سبحانه أن يسلط الضعيف من خلقه الذي لا مؤنة له على القوى فينتقم به منه وينُزل به ما كان يحذره منه حتى لا يستطيع لذلك ردا ولا صرفا، قال الله تعالى: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.

فواحسرتاه على استقامهٍ مع الله وإيثارٍ لمرضاته في كل حال يُمَكَّنُ به الضعيف المستضعف حتى يرى من استضعفه انه أولى بالله ورسوله منه،

[تسليط القوي على الضعيف]

ولكن اقتضت حكمة الله العزيز الحكيم أن يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة ذنوب المظلوم المبغي عليه، فذنوبه من أعظم أسباب الرحمة في حق ظالمة، كما أن المسئول إذا رد السائل فهو في خفارة كذبه، ولو صدق السائل لما أفلح من رده، وكذلك السارق وقاطع الطريق في خفارة منعِ أصحاب الأموال حقوق الله فيها ولو أدّوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم.

وهذا أيضا باب عظيم من حكمة الله يطَّلع الناظر فيه على أسرار من أسرار التقدير، وتسليط العالم بعضهم على بعض وتمكين الجناة والبغاة، فسبحان من له في كل شيء حكمة بالغة، وآية باهرة حتى إن الحيوانات العاديَةَ على الناس في أموالهم وأرزاقهم وأبدانهم تعيش في خفارة ما كسبت أيديهم، ولولا ذلك لم يسلط عليهم منها شيء.

ولعل هذا الفصل الاستطرادي انفع لمتأمله من كثير من الفصول المتقدمة فإنه إذا أعطاه حقه من النظر والفكر عظم انتفاعه به جدا والله الموفق.

[هذه بتلك]

ويحكى أن بعض أصحاب الماشية كان يشوب اللبن ويبيعه على أنه خالص، فأرسل الله عليه سيلا فذهب بالغنم فجعل يعجب فأُتى في منامه فقيل له: أتعجب من أخذ السيل غنمك؟! إنما تلك القطرات التي شبت بها البن اجتمعت وصارت سيلا.

فقس على هذه الحكاية ما تراه في نفسك وفي غيرك، تعلم حينئذ أن الله قائم بالقسط، وأنه قائم على كل نفس بما كسبت، وانه لا يظلم مثقال ذرة.

والأثر الإسرائيلي معروف أن رجلا كان يشوب الخمر ويبيعه على أنه خالص، فجمع من ذلك كيس ذهب وسافر به فركب البحر ومعه قرد له، فلما نام أخذ القرد الكيس وصعد به إلى أعلى المركب ثم فتحه فجعل يلقيه ديناراً في الماء وديناراً في المركب، كأنه يقول له بلسان الحال: ثمن الماء صار إلى الماء، ولم يظلمك !

[منعاً بمنع]

وتأمل حكمة الله عز و جل في حبس الغيث عن عباده، وابتلائهم بالقحط إذا منعو الزكاة وحرموا المساكين، كيف جوزوا على منع ما للمساكين قِبَلَهم من القوت بمنع الله مادة القوت والرزق وحبسها عنهم، فقال لهم بلسان الحال منعتم الحق فمنعتم الغيث، فهلا استنزلتموه ببذل ما لله قِبَلَكُم.

[وصداً بصد]

وتأمل حكمة الله تعالى في صرفه الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه، فصدهم عنه كما صدوا عباده، صداً بصد، ومنعا بمنع.

[وإتلاف بإتلاف]

وتأمل حكمته تعالى في محق أموال المرابين، وتسليط المتلفات عليها كما فعلوا بأموال الناس ومحقوها عليهم وأتلفوها بالربا، جوزوا إتلافا بإتلاف، فقلَّ أن ترى مرابيا إلا وآخرته إلى محق وقلة وحاجة.

[ وكما تكونون يولى عليكم ]

وتأمل حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، كيف يسلط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء، وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها.

وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظَهرَ فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وبخلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمَّالُهم ظهرت في صور أعمالهم.

وليس في الحكمة الإلهية أن يولى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم.

ولما كان الصدر الأول خيارَ القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة، فحكمه الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز فضلا عن مثل أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها.

ومن له فطنه إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الإلهية سائرة في القضاء والقدر، ظاهرة وباطنة فيه كما في الخلق والأمر سواء، فإياك أن تظن بظنك الفاسد أن شيئا من أقضيته وأقداره عار عن الحكمة البالغة، بل جميع أقضيته تعالى وأقداره واقعة على أتم وجوه الحكمة والصواب، ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن إدراكها كما أن الأبصار الخفاشية محجوبة بضعفها عن ضوء الشمس، وهذه العقول الضعاف إذا صادفها الباطل جالت فيه وصالت ونطقت وقالت، كما أن الخفاش إذا صادفه ظلام الليل طار وسار :

خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ولازمها قطع من الليل مظلم


من كتاب مفتاح دار السعادة (2/175 – 179)

ستة أصول يلتقي عليها أهل السنة

ستة أصول يلتقي عليها أهل السنة

العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

سئل رحمه الله عن أصول المسائل التي مَن خالفها فقد خالف منهج أهل السنة والجماعة ؟

فأجاب بقوله:

الأصل الأول: في باب الأسماء والصفات :- هم وسط بين الممثلة والمعطلة ، فـ الممثلة : طائفة تقول: صفات الله تعالى كصفاتنا؛ فوجه الله كوجوهنا، وعينه كأعيننا، ويده كأيدينا، وما أشبه ذلك.

و المعطلة بالعكس، فهم ينكرون ما وصف الله به نفسه، ويقولون: ليس لله وجه، ولا يد، ولا عين، وما أشبه ذلك، و { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } في هذه الأمور.

الأصل الثاني: في القَدَر :- كذلك أهل السنة والجماعة وسط في القَدَر، فهناك طائفتان ضالتان في مسألة القَدَر: الطائفة الأولى: الجبرية ، تقول: إن الإنسان مُجْبَر على عمله، ولا اختيار له ولا إرادة، والطائفة الأخرى: القدرية ، تقول: الإنسان مستقل بنفسه، وليس لله فيه تعلُّق، يفعل بدون مشيئةٍ من الله، وبدون خَلْق.

و أهل السنة والجماعة قالوا: إن الإنسان يفعل باختياره، وهو مختارٌ مُخَيَّر؛ ولكن أيَّ فعل يفعله فهو بمشيئة الله تعالى وخلقِه.

الأصل الثالث: في أسماء الإيمان والدِّين :- ففي أسماء الإيمان والدين نجد من الفرق المخالِفة: المعتزلة ، و الخوارج ، من جهة، و المرجئة من جهة أخرى.

قالت المعتزلة و الخوارج : إن الإنسان إذا زَنَى خرج من الإيمان، فلا يكون مؤمناً، ولا يَصْدُق عليه أنه مؤمن أبداً.

وقالت المرجئة وهم ضدهم: إن الإنسان وإن زَنَى وسرق فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه مثل إيمان أطوع الناس لله.

وقال أهل السنة والجماعة : إذا زَنَى الإنسان أو سرق فإنه مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته.

الأصل الرابع: في الأحكام :- ففي أحكام الإنسان على فعله، ماذا يكون إذا فعل الكبيرة، قالت المعتزلة و الخوارج : إنه يخلد في النار مع المنافقين؛ مع أبي جهل ، و أبي لهب ، وغيرهم، وقالت المرجئة : لا. بل فاعل الكبيرة لا يدخل النار أبداً، ولا يمكن.

و أهل السنة والجماعة قالوا: إنه يستحق العقاب، وقد يغفر الله له.

الأصل الخامس: في أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام:- وهو الأصل الخامس الذي ذكره شيخ الإسلام ، فأصحاب الرسول انقسمت فيهم أهل البدع إلى قسمين: قسمٌ كفَّروهم وضلَّلوهم كـ الرافضة ، إلا آل البيت فإنهم غالَوا فيهم وأنزلوهم فوق منزلتهم، فصاروا ضالين في الصحابة من وجهين: مِن جهة تكفير وتضليل، عدا آل البيت، ومن جهة الغُلُو في آل البيت .

وهناك قسم ضدهم يُسَمَّى: الخوارج وهم النواصب، فقد كفروا علي بن أبي طالب، وخرجوا عليه، وقاتلوه، واستحلوا دمه.

أما أهل السنة والجماعة فقالوا: الصحابة رضي الله عنهم خير القرون وأفضل الأمة، ولهم حقهم الذي يجب علينا، ولآل النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به حقُّ القرابة مع الإيمان والصحبة إذا كانوا من الصحابة؛ ولكننا لا نغلو فيهم كما فعل الرافضة ، ولا نقدح فيهم كما فعلت الخوارج ، بل نعطي حقهم من غير غُلُو ولا تقصير.

كذلك من الأصول التي يختلف فيها أهل السنة وأهل البدع: الخروج على الأئمة: فـ الحرورية هؤلاء الخوارج خرجوا على إمام المسلمين، وكفَّروه، وقاتلوه، واستباحوا دماء المسلمين من أجل ذلك.

وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: علينا أن نسمع ونطيع لولي الأمر فعل ما فعل من الكبائر والفسق ما لم يصل إلى حد الكفر البواح، فحينئذ نقاتله إذا لم يترتب على قتاله شر وفتن، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الخروج على الأئمة إلا بشروط وقال: ( إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان أربعة شروط:

الأول: أن تروا، أي: بأعينكم، أو تعلموا ذلك.

الثاني: كفراً، لا فسقاً، أي: حتى لو رأى أنه يزني، أو يسرق، أو يقتل النفس المحرمة بغير حق، دون استباحة لذلك، فإنه ليس كافراً بل هو فاسق من جملة الفاسقين، ولا يحل لنا أن نخرج عليه، فالرسول قال: كفراً.

الثالث: بواحاً أي: صريحاً لا يمكن فيه التأويل، فإن أمكن فيه التأويل فإننا لا نكفره، ولا نخرج عليه.

الرابع: عندكم فيه من الله برهان، يعني: ليس الكفر الذي رأيناه بواحاً كفراً بقياس أو ما أشبه ذلك؛ بل يكون عندنا فيه برهان، ودليل واضح من الكتاب والسنة.

هذه أربعة شروط،

وهناك شرط خامس يؤخذ من الأدلة الأخرى، وهو: أن يكون عندنا قدرة على إزاحة هذا الحاكم الكافر الذي كَفَرَ كفراً صريحاً عندنا فيه من الله برهان، فيكون لنا قدرة على ذلك، فإن لم يكن لنا قدرة صار الشر الذي نريد إزالته أكثر مما لو تركناه على حاله، ثم حاولنا بطريق أو بأخرى الإصلاح ما استطعنا.

ولهذا يخطئ بعض الإخوة الذين عندهم -ولله الحمد- غيرة إسلامية ودين، يخطئون حينما يخرجون على مَن ولَّاه الله تعالى إياهم، والله حكيم، فهو الذي يولِّي بعض الظالمين بعضاً، ولا تظنوا أن الولاة إذا ظلموا أو اعتدوا أن هذا تسليط من الله تعالى لمجرد مشيئة من الله، بل هو لحكمة؛ لأن الله قال: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأنعام:129].

والولاة لا يتسلطون على الرعية إلا بسبب الرعية، ( كما تكونون يُوَلَّى عليكم )، فبعض الناس الذين يحاولون الخروج على من ولاه الله عليهم ولو بالقوة هم يخطئون في الواقع من أوجه:

الأول: أنه لابد من العلم بما حصل من هذا الذي ولاه الله عليهم، فلابد أن نعلم، فمجرد الكلام الذي يُنْقَل لا ينبغي أن يُصدَّق، وكم نُقِل إلينا من أقوال كاذبة، سواء في الولاة، أو فيمن هم دون الولاة، فإذا تحققنا وجدنا أنه لا أصل لها، ولهذا جاء الحديث: ( إلا أن تروا كفراً ).

الثاني: إذا رأينا هذا الشيء بأعيننا، أو تواتر إلينا من ثقات، فلابد أن نعرضه على الكتاب والسنة، وننظر هل هو كفر أو فسق؟!

الثالث: لابد أن يكون بواحاً، إذا ظننا أنه كفر فلا بد أن ننظر هل فيه برهان من الله؟ هل هو كفر صريح لا يحتمل التأويل؟ لأنه قد يكون كفراً؛ لكن يُعْذَر فيه الإنسان من جهة التأويل.

فلابد أن يكون بواحاً، صريحاً، واضحاً لا يحتمل التأويل.

الرابع: لابد أن يكون عندنا فيه من الله برهان، وهو الدليل القاطع الواضح.

وإنما ضيق النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، أي: الخروج على الأئمة بهذه القيود التي قد يظنها بعض الناس صعبة؛ لأن ما يترتب على الخروج أشد ضرراً مما هم عليه.

وأنتم تشاهدون الآن ما حصل من الثورات، هل كانت الشعوب أسعد بعد الثورة منها قبل الثورة؟ أبداً.

بل بالعكس، وليس هناك حاجة إلى أن نعين بلاداً معينة في هذا المكان؛ لأن الأمر واضح.

فالمهم أن ننصح إخواننا المسلمين بعدم التسرع. اهـ.


من كتاب: لقاء الباب المفتوح ، 45/108-109

أقوال العلماء المعتبرين في تحكيم القوانين


أقـوال العـلـمـاء المعـتبرين
فـي تـحـكـيـم الـقـوانـيـن
 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد:
فهذا بعض ما قاله علماء الإسلام المعتبرين على مدار القرون في تأويل آيات الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم القوانين. 
 حبر الأمة  وترجمان  القرآن  الصحابي الجليل  عبد الله بن عباس  رضي الله عنهما
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال: "من جحد ما أنزل الله، فقد كفر، ومن أقرّبه، لم يحكم به فهو ظالم فاسق".
أخرجه الطبري في «جامع البيان» (6/166) بإسناد حسن. «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للإلباني(6/114)
 وقال طاووس عن ابن عباس – أيضاً – في قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ؛ قال: ليس بالكفر الذي يذهبون إليه".
أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/522/574) بإسناد صحيح. «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للإلباني (6/114)
 وفي لفظ: "كفر لا ينقل عن الملة". وفي لفظ آخر: "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق".
أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/522/575) «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للإلباني (6/114)
 ولفظ ثالث: "هو به كفره، وليس كمن كفر بالله، وملائكته، وكتبه ورسله".
أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/521/570) وإسناده صحيح.
 وقال محدث العصر الإمام الألباني : هذا الأثر السلفي متفق على صحته بين العلماء الحفاظ والأئمة النقاد المشهود لهم بالعلم، ورسوخ قدمهم فيه -سلفاً وخلفاً.
( العلماء الأعلام الذين صرحوا بصحة  تفسير ابن عباس  واحتجوا  به )
الحاكم في المستدرك (2/393)، ووافقه الذهبي، الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/64) قال: صحيح على شرط الشيخين، الإمام القدوة محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/520)، الإمام أبو المظفر السمعاني في تفسيره (2/42)، الإمام البغوي في معالم التنزيل (3/61)، الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (2/624)، الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/190)، الإمام البقاعي في نظم الدرر (2/460)، الإمام الواحدي في الوسيط (2/191)، العلامة صديق حسن خان في نيل المرام (2/472)، العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (2/101)، الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان (ص 45)، العلامة أبو حيان في البحر لمحيط (3/492)، الإمام ابن بطة في الإبانة (2/723)، الإمام ابن عبد البر في التمهيد (4/237)، العلامة الخازن في تفسيره (1/310)، العلامة السعدي في تفسيره (2/296)، شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/312)، العلامة ابن القيم الجوزية في مدارج السالكين (1/335)، محدث العصر العلامة الألباني في "الصحيحة" (6/109).
قال فقيه الزمان العلامة ابن عثيمين في "التحذير من فتنة التكفير" ( ص 68):
لكن لما كان هذا الأثر لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتكفير؛ صاروا يقولون: هذا الأثر غير مقبول! ولا يصح عن ابن عباس! فيقال لهم: كيف لا يصحّ؛ وقد تلقاه من هو أكبر منكم، وأفضل، وأعلم بالحديث؟! وتقولون: لا نقبل ... فيكفينا أن علماء جهابذة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم – وغيرهما – كلهم تلقوه بالقبول ويتكلمون به، وينقلونه؛ فالأثر صحيح.

معركة التأويل
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن ، كما قاتلت على تنزيله » ، فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر، فقال: « لا، ولكنه خاصف النعل » يعني علياً رضي الله عنه ». رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه وقال الذهبي على شرط مسلم.
وأخرج ابن وهب، عن بكير، أنه سأل نافعاً: كيف رأي ابن عمر في الحرورية؟
قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.
فسُرَّ سعيد بن جبير من ذلك فقال:
مما يتَّبع الحرورية من المتشابه قول تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ويقرنون معها ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ﴾.
فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه؛ ومن عدل بربه فقد أشرك، فهذه الأمة مشركون.
فيخرجون - أي: الحرورية - فيقتلون ما رأيت لأنهم يتأولون هذه الآية.
[الاعتصام(2/692)  وقد روى هذا الأثر البخاري في صحيحه، كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين، معلقاً وقد وصله ابن جرير في تهذيب الآثار. قال الحافظ: سنده صحيح. وقد أخرج نحوه الآجري في الشريعة (1/341)]
أقوال أئمة الإسلام عبر القرون في تحكيم القوانين

.(1)- الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام (المتوفى سنة :224)
قال في الإيمان ص 45 : "وأما الفرقان الشاهد عليه في التنزيل، فقول الله عز وجل: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وقال ابن عباس: ليس بكفر ينقل عن الملة وقال عطاء بن أبي رباح: كفر دون كفر فقد تبين لنا أنه كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باق على حاله، وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا خلاف الكفار وسنتهم، على ما أعلمتك من الشرك سواء، لأن من سنن الكفار الحكم بغير ما أنزل الله، ألا تسمع قوله ﴿ أفحكم الجاهلية يبغون تأويله عند أهل التفسير أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون وهكذا قوله: «ثلاثة من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة، والأنواء» ومثله الحديث الذي يروى عن جرير وأبي البختري الطائي: « ثلاثة من سنة الجاهلية: النياحة، وصنعة الطعام، وأن تبيت المرأة في أهل الميت من غيرهم» وكذلك الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وقول عبد الله : الغناء ينبت النفاق في القلب. ليس وجوه هذه الآثار كلها من الذنوب: أن راكبها يكون جاهلا ولا كافرا ولا منافقا وهو مؤمن بالله وما جاء من عنده، ومؤد لفرائضه، ولكن معناها أنها تتبين من أفعال الكفار محرمة منهي عنها في الكتاب وفي السنة، ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها، فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم".
.(2)-  إمام أهل السنة  والجماعة  الإمام أحمد بن حنبل  (المتوفى سنة :241)
3قال إسماعيل بن سعد في "سؤالات ابن هاني" (2/192): "سألت أحمد: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، قلت: فما هذا الكفر؟
قال: "كفر لا يخرج من الملة"
3ولما سأله أبو داود السجستاني في سؤالاته (ص 114) عن هذه الآية؛ أجابه بقول طاووس وعطاء المتقدمين.
3وذكر شيخ الإسلام بن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/254)، وتلميذه ابن القيم في "حكم تارك الصلاة" ( ص 59-60): أن الإمام أحمد –رحمه الله- سئل عن الكفر المذكور في آية الحكم؛ فقال: "كفر لا ينقل عن الملة؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه". 
.(3)-   الإمام محمد بن نصر المروزي   (المتوفى سنة :294)
قال في "تعظيم قدر الصلاة" (2/520): ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً دون أصله لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل، لا ينقل تركه عن ملة الإسلامة، من ذلك قول ابن عباس في قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ .
وقال (2/523) معقباً على أثر عطاء:- "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم وفسق دون فسق"-: وقد صدق عطاء؛ قد يسمى الكافر ظالماً، ويسمى العاصي من المسلمين ظالماً، فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل". 
.(4)-   شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري   (المتوفى سنة :310)
قال في "جامع البيان" (6/166): وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟!
قيل: إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، هو بالله كافر؛ كما قال ابن عباس".
.(5)-  الإمام ابن بطة  العكبري  (المتوفى سنة :387)
ذكر في "الإبانة" (2/723): "باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة"، وذكر ظمن هذا الباب: الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة".  
.(6)-   الإمام ابن عبد البر   (المتوفى سنة : 463)
قال في "التمهيد" (5/74): "وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به، رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف، وقال الله عز وجل: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ،﴿ الظَّالِمُونَ ،﴿ الْفَاسِقُونَ نزلت في أهل الكتاب، قال حذيفة وابن عباس: وهي عامة فينا؛ قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاووس وعطاء".
وقال في (17/16) : وقد ضلَّت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بآيات من كتاب الله ليست على ظاهرها مثل قوله تعالى ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (.
.(7)-   الإمام السمعاني  (المتوفى سنة :510)
قال في تفسيره للآية (2/42): "واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية، ويقولون: من لم يحكم بما أنزل الله؛ فهو كافر، وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم". 
.(8)-   الإمام ابن الجوزي   (المتوفى سنة : 597)
قال في "زاد المسير" (2/366): وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله؛ كما فعلت اليهود؛ فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود؛ فهو ظالم فاسق، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ أنه قال: من جحد ما أنزل الله؛ فقد كفر، ومن أقرّبه؛ ولم يحكمم به؛ فهو ظالم فاسق". 
.(9)-   الإمام ابن العربي  (المتوفى سنة :543)
قال رحمه الله في "أحكام القرآن" (2/624): " وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين". 
.(10)-   الإمام القرطبي   (المتوفى سنة :671)
وقال في "المفهم" (5/117): "وقوله ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ يحتج بظاهره من يكفر بالذنوب، وهم الخوارج!، ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى، كما جاء في الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب النزول.
وبيان هذا: أن المسلم إذا علم حكم الله تعلى في قضية قطعاً ثم لم يحكم به، فإن كان عن جحد كان كافراً، لا يختلف في هذا، وإن كان لا عن جحد كان عاصياً مرتكب كبيرة، لأنه مصدق بأصل ذلك الحكم، وعالم بوجوب تنفيذه عليه، لكنه عصى بترك العمل به، وهذا في كل ما يُعلم من ضرورة الشرع حكمه؛ كالصلاة وغيرها من القواعد المعلومة، وهذا مذهب أهل السنة". 


وقال في "أحكام القرآن" (2/ 127) : في مسألة قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله :
"وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله؛ فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين".
.(11)-  شيخ الإسلام ابن تيمية   (المتوفى سنة :728)
3قال في "مجموع الفتاوى" (3/267): والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه أو حرم الحرام المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين : ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ؛ أي: المستحل للحكم بغير ما أنزل الله".
3وقال في منهاج السنة (5/130): قال تعالى: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]؛ فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم؛ فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزماً لحكم الله ورسولة باطناً وظاهراً، لكن عصى واتبع هواه؛ فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة. وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله. وقد تكلم الناس بما يطول ذكره هنا، وما ذكرته يدل عليه سياق الآية".
3وقال في "مجموع الفتاوى" (7/312): "وإذا كان من قول السلف: (إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق)، فكذلك في قولهم: (إنه يكون فيه إيمان وكفر) ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملّة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ قالوا: كفروا كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتّبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة". 


وقال في "مجموع الفتاوى" (3/ 268) :
" الشرع المبدل : وهو الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع. كمن قال: إن الدم والميتة حلال"
.(12)-  الإمام ابن قيم الجوزية  (المتوفى سنة :751)
3قال في "مدارج السالكين" (1/336): والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين: الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مُخيّر فيه، مع تيقُنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. إن جهله وأخطأه، فهذا مخطئ، له حكم المخطئين.
3وقال في "الصلاة وحكم تاركها" ( ص 72): "وههنا أصل آخر، وهو الكفر نوعان: كفر عمل. وكفر جحود وعناد. فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً؛ من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده: فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبيِّ، وسبه؛ يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل الله ، وترك الصلاة؛ فهو من الكفر العملي قطعاً". 
.(13)-   الحافظ ابن كثير  (المتوفى سنة :774)
قال رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (2/61): ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً، وقال ههنا: (فَأُوْلَـئِكَ هُم الظَّالِمُونَ) لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا". 
.(14)-  الإمام  الشاطبي  (المتوفى سنة :790)
قال في "الموافقات" (4/39): "هذه الآية والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم –وإن ارتكب كبيرة- لا يقال له: كافر". 
.(15)-   الإمام ابن أبي العز الحنفي  (المتوفى سنة : 791)
قال في "شرح الطحاوية" ( ص 323): وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً: أما مجازاً؛ وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعه، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازيا، أو كفراً أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه؛ فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور. 
.(16)-  الحافظ  ابن حجر العسقلاني  (المتوفى سنة :852)
قال في "فتح الباري" (13/120): "إن الآيات، وإن كان سببها أهل الكتاب، لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة: أن مرتكب المعصية لا يسمى: كافراً، ولا يسمى – أيضاً – ظالماً؛ لأن الظلم قد فُسر بالشرك، بقيت الصفة الثالثة"؛ يعني الفسق.
.(17)-    العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ   (المتوفى سنة : 1293)
قال في "منهاج التأسيس" ( ص 71): وإنما يحرُم إذا كان المستند إلى الشريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر، وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهوائهم، وكذلك البادية وعادتهم الجارية... فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها؛ فهو كافر، قال تعالى : ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ... وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا: كفر دون الكفر الأكبر؛ لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة". 
.(18)-   العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي   (المتوفى سنة : 1307)
قال في "تيسير الكريم الرحمن" (2/296-297): " فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرً ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه، وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد .. ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، فهو ظلم أكبر عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له". 
.(19)-   العلامة  صديق حسن خان القنوجي  (المتوفى سنة : 1307)
قال في "الدين الخالص" (3/305): "الآية الكريمة الشريفة تنادي عليهم بالكفر، وتتناول كل من لم يحكم بما أنزل الله، أللهم إلا أن يكون الإكراه لمهم عذراً في ذلك، أو يعتبر الاستخفاف أو الاستحلال؛ لأن هذه القيود إذا لم تعتبر فيهم، لا يكون أحد منهم ناجياً من الكفر والنار أبداً".          
.(20)-    سماحة الشيخ  العلامة  محمد بن إبراهيم آل الشيخ   (المتوفى سنة : 1389)
3قال في "مجموع الفتاوى" (1/80) له:"وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله: من تحكيم شريعته، والتقيد بها، ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي من حكم بها [يعني القوانين الوضعية] أو حاكم إليها؛ معتقداً صحة ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، فإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملّة".
3وسُئل الشيخ ابن باز: هل الشيخ محمد بن إبراهيم- رحمه الله - يرى تكفير الحكَّامِ على الإطلاق ؟
الجواب: يرى تكفير من استحلَّ الحكمَ بغير ما أنزلَ الله فإنه يكونُ بذلك كافراً .
هذه أقوال أهل العلم جميعاً: من استحلَّ الحكم بغير ما أنزل اللهُ كفر، أمَّا من فعله لشبهة أو لأسباب أُخرى لا يستحلَّه يكون كفراً دون كُفْر. [فتاوى الشيخ ابن باز ( 28/ 271) ، نُشر في مجلَة الفُرقان ، العدد 100 ، في ربيع الثاني 1419هـ] .
3وقال العلامة ابن إبراهيم في «فتاويه» (12/247): «الحكومة السعودية أيَّدها اللهُ بتوفيقه ورعايته لا تحتكم إلى قانونٍ وضعيٍّ مطلقاً، وإنما محاكمُها قائمةٌ على تحكيمِ شريعة الله تعالى أو سُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- أو انعقد على القول به إجماعُ الأُمة، إذ الاحتكام إلى غيرِ ما أنزلَ اللهُ طريقٌ إلى الكفر والظلم والفسوق». (حُررت في 21/11/1386هـ ) .
.(21)-   العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي   (المتوفى سنة : 1393)
قال في "أضواء البيان" (2/104):" واعلم: أن تحرير المقال في هذا البحث: أن الكفر والظلم والفسق، كل واحد منها أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ معارضاً للرسل، وإبطالاً لأحكام الله؛ فظلمه وفسقه وكفره كلها مخرج من الملة. ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ معتقداً أنه مرتكب حراماً، فاعل قبيحاً، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج من الملة". 
.(22)-  سماحة  الشيخ  العلامة  عبد العزيز بن عبد الله بن باز  (المتوفى سنة : 1420)
نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها (6156) بتاريخ 12/5/1416 مقالة قال فيها: "اطلعت على الجواب المفيد القيّم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – وفقه الله – المنشور في جريدة "الشرق الأوسط" وصحيفة "المسلمون" الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير من حكم بغير ما أنزل الله – من غير تفصيل -، فألفيتها كلمة قيمة قد أصاب فيه الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح – وفقه الله – أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله – بمجرد الفعل – من دون أن يعلم أنه استحلّ ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وغيره من سلف الأمة.
ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، ﴿...الظَّالِمُونَ ، ﴿ ...الْفَاسِقُونَ ، هو الصواب، وقد أوضح – وفقه الله – أن الكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان: أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفراً أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفراً أصغر وظلمه ظلماً أصغر وهكذا فسقه".
.(23)-  محدث  العصر العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني   (المتوفى سنة : 1420)
قال في "التحذير من فتنة التكفير" ( ص 56): " ... ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ؛ فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة؟ أو أنه غير ذلك؟، فأقول: لا بد من الدقة في فهم الآية؛ فإنها قد تعني الكفر العملي؛ وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام.
ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي أجمع المسلمون جميعاً – إلا من كان من الفرق الضالة – على أنه إمام فريد في التفسير.
فكأنه طرق سمعه – يومئذ – ما نسمعه اليوم تماماً من أن هناك أناساً يفهمون هذه الأية فهماً سطحياً، من غير تفصيل، فقال رضي الله عنه: "ليس الكفر الذي تذهبون إليه"، و:"أنه ليس كفراً ينقل عن الملة"، و:"هو كفر دون كفر"، ولعله يعني: بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال: ليس الأمر كما قالوا! أو كما ظنوا! إنما هو: كفر دون كفر...".             
.(24)-   فقيه الزمان   العلامة  محمد بن صالح  العثيمين   (المتوفى سنة : 1421)
3سُئل في شريط "التحرير في مسألة التكفير" بتاريخ (22/4/1420) سؤالاً مفاده:
إذا ألزم الحاكم الناس بشريعة مخالفة للكتاب والسنة مع اعترافه بأن الحق ما في الكتاب والسنة لكنه يرى إلزام الناس بهذا الشريعة شهوة أو لاعتبارات أخرى، هل يكون بفعله هذا كافراً أم لابد أن يُنظر في اعتقاده في هذه المسألة؟ 
فأجاب: "... أما في ما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كما في كتابه العزيز، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كفر، وظلم، وفسق، على حسب الأسباب التي بُني عليها هذا الحكم، فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعاً لهواه مع علمه أن بأن الحق فيما قضى الله به ؛ فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم، وأما إذا كان يشرع حكماً عاماً تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة وقد لبس عليه فيه فلا يكفر أيضاً، لأن كثيراً من الحكام عندهم جهل بعلم الشريعة ويتصل بمن لا يعرف الحكم الشرعي، وهم يرونه عالماً كبيراً، فيحصل بذلك مخالفة، وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستوراً يمشي الناس عليه؛ نعتقد أنه ظالم في ذلك وللحق الذي جاء في الكتاب والسنة أننا لا نستطيع أن نكفر هذا، وإنما نكفر من يرى أن الحكم بغير ما أنزل الله أولى أن يكون الناس عليه، أو مثل حكم الله عز وجل فإن هذا كافر لأنه يكذب بقول الله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وقوله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ .
3وسئل رحمه الله:
بعض الناس يقول إن الانضمام إلى الأمم المتحدة تحاكم أيضاً إلى غير الله سبحانه وتعالى، فهل هذا صحيح ؟
فأجاب: هذا ليس بصحيح، فكل يحكم في بلده بما يقتضيه النظام عنده، فأهل الإسلام يحتكمون إلى الكتاب والسنة ، وغيرهم إلى قوانينهم، ولا تجبر الأمم المتحدة أحداً أن يحكم بغير ما يحكم به في بلاده، وليس الانضمام إليها إلا من باب المعاهدات التي تقع بين المسلمين والكفار. [مجلة الدعوة – العدد 1608 – 10 جمادى الأولى 1418]      
.(25)-   اللجنة  الدائمة  للبحوث  العلمية  والإفتاء في السعودية
الفتوى رقم (6310): س: ما حكم من يتحاكم إلى القوانين الوضعية، وهو يعلم بطلانها، فلا يحاربها، ولا يعمل على إزالتها؟
ج: "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه؛ وبعد:
الواجب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف، قال تعالى: ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ، وقال تعالى: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا . والتحاكم يكون إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن يتحاكم إليها مستحلاً التحاكم إلى غيرهما من القوانين الوضعيه بدافع طمع في مال أو منصب؛ فهو مرتكب معصية، وفاسق فسقاً دون فسق، ولا يخرج من دائرة الإيمان". 
.(26)-  عالم المدينة  الشيخ  عبد المحسن العباد البدر – حفظه الله -
سُئل في المسجد النبوي في درس شرح سنن أبي داود بتاريخ: 16/11/1420 :
هل استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية كفر في ذاته؟ أم يحتاج إلى الاستحلال القلبي والاعتقاد بجواز ذلك؟ وهل هناك فرق في الحكم مرة بغير ما أنزل الله، وجعل القوانين تشريعاً عاماً مع اعتقاد عدم جواز ذلك؟
 فأجاب: "يبدو أنه لا فرق بين الحكم في مسألة، أو عشرة، أو مئة، أو ألف – أو أقل أو أكثر – لا فرق؛ ما دام الإنسان يعتبر نفسه أنه مخطئ، وأنه فعل أمراً منكراً، وأنه فعل معصية، وانه خائف من الذنب، فهذا كفر دون كفر.
وأما مع الاستحلال – ولو كان في مسألة واحدة، يستحل فيها الحكم بغير ما أنزل الله، يعتبر نفسه حلالاً-؛ فإنه يكون كافراً ".
.(27)-  صاحب الفضيلة العلامة الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله -
3قال - حفظه الله تعالى - في شرحه على الأصول الثلاثة  ص (304 – 306) :
"الخامس : من حكم بغير ما أنزل الله : ودليله قوله تعالى : ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء:60] فالذي يحكم بغير ما أنزل الله مستحلاً لذلك يكون طاغوتًا، والذي يقول: أنه يجوز أن يتحاكموا إلى القانون أو إلى العوائد في الجاهلية أو عوائد القبائل والبادية ويتركوا الشرع، يقول: هذا حلال، أو: هذا يساوي ما أنزل الله، فإذا قال: إنه أحسن مما أنزل الله، أو يساوي ما أنزل الله، أو قال:  إنه حلال فقط، ولم يقل: إنه يساوي، ولا أفضل، قال: حلال جائز، هذا يعتبر طاغوتًا، بنص القرآن، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ سمي طاغوتًا لأنه تجاوز حده.
أما من حكم بغير ما أنزل الله وهو يقر أن ما أنزل الله هو الواجب الإتباع والحق، وأن غيره باطل، وأنه يحكم بباطل، فهذا يعتبر كافرا الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة، لكنه على خطر عظيم، على طريق قد يصل به إلى الكفر المخرج من الملة إذا تساهل في هذا الأمر.
وأما من حكم بغير ما أنزل الله عن غير تعمد بل عن اجتهاد، وهو من أهل الاجتهاد من الفقهاء واجتهد ولكن لم يصب حكم الله، وأخطأ في اجتهاده فهذا مغفور له، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر» لأنه لم يتعمد الخطأ هو يريد الحق ويريد موافقة حكم الله عز وجل؛ لكنه لم يوفق له فهذا يعتبر معذورًا ومأجورًا؛ ولكن لا يجوز إتباعه على الخطأ، لا يجوز لنا أن نتبعه على الخطأ، ومن هذا اجتهادات الفقهاء التي أخطئوا فيها أو اجتهادات القضاة في المحاكم إذا اجتهدوا وبذلوا وسعهم في طلب الوصول إلى الحق ولكن لم يوفقوا فخطؤهم مغفور".
3وسئل – حفظه الله - : هل يجوز الدعاء بالصلاح والتوفيق للحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، بل يحكم بالقوانين الوضعية ، وهل في ذلك تشجيع له على ذلك أم ندعوا له وعليه ؟

فقال: الكافر يدعى له بالهداية، فكيف بالمسلم العاصي؟ فيدعى بالهداية للكافر وللمسلم، ويدعى لولي الأمر أن يوفقه الله للتوبة ولتحكيم الشريعة لا بأس في ذلك .[شرح أخصر المختصرات في الفقه الحنبلي ش16 د1:22:31 ]

 هذا ما تيسر جمعه،
 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

-۞ أقرأ أيضاً ::
الإمام عبد اللطيف آل الشيخ

العلامة ابن عثيمين
شيخ الإسلام ابن تيمية
الإمام ابن قيم الجوزية
الإمام محمد بن نصر المروزي
-