أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

تفكر في هذه تكفيك

تفكر في هذه تكفيك

تفسير سورة العصر

للإمام الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى، عن تفسير سورة العصر ؟

فأجاب: الكلام عليها طويل، لكن نذكر لك ما ذكر أهل العلم، على سبيل الاختصار.

ذكروا أن العصر هو الدهر الذي خلقه الله سبحانه، والله سبحانه له أن يقسم بما شاء من خلقه، وأما المخلوق، فلا يجوز له أن يقسم إلا بالله تبارك وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"، وجواب القسم: {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} .

والإنسان: اسم جنس، وهم جميع بني آدم؛ ثم استثنى فقال: {إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأيقنوا بقلوبهم، وصدقوا أن ما أخبر الله في كتابه، وعلى ألسنة رسله، فهو الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك فيه.

{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: عملوا بما شرعه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بجوارحهم.

ولا بد في العمل الصالح، من شرطين:

الأول: أن يكون خالصا لوجه الله،

الثاني: أن يكون على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.

فقوله: {عَمَلاً صَالِحًا} هو المشروع، وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} هو الإخلاص الذي لوجه الله؛

فهذه مرتبتان:

الأولى: الإيمان بالله ورسوله،

الثانية: العمل الصالح، فهذا هو العلم بما أنزل الله والعمل به.

فإذا علم الإنسان ما أنزل الله، فعليه أن يعمل به، وإذا عمل العمل الصالح، فعليه:

مرتبة ثالثة، وهي: التواصي بالحق، وهي أن يوصي غيره باتباع الحق، ويعلم الجهال مما علمه الله، بخلاف من قال الله فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً}[سورة البقرة آية : 174] .

فإذا فعل المؤمن ما أمره الله به من التواصي بالحق، وهو الأمر بالمعروف الذي أمر الله به، والنهي عن المنكر الذي نهى الله عنه، فعليه:

مرتبة رابعة، وهي: الصبر على أذى الخلق وإساءتهم إليه في ذات الله تعالى، كما صبر أنبياء الله ورسله، وأهل العلم من خلقه على ذلك.

فهذه أربع مراتب، إذا عمل بها الإنسان، صار من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين.

نسأل الله أن يرزقنا وإخواننا فهمها، والعمل بها، فذكرهن الله في هذه السورة القصيرة الألفاظ، الطويلة المعاني، كما قال الشافعي رحمه الله: لو عمل الناس بهذه السورة لكفتهم، وهو كما قال رحمه الله تعالى. أهـ.

ولنا وقفه أخرى مع سورة العصر في الأسبوع القادم إن شاء الله.

 

من الدرر السنية في الأجوبة النجدية (13/ 442)

 

تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين


تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين

للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب

قال رحمه الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص :

عن عبد الله بن حبيب قال: (خرجنا في ليلة ممطرة فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه، فقال: قل ، فلم أقل شيئا، قال: قلت يا رسول الله ما أقول ؟ قال: {قل هو الله أحد} والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك كل شيء) قال الترمذي حديث حسن صحيح.

والأحد: الذي لا نظير له،

والصمد: الذي تصمد الخلائق كلها إليه في جميع الحاجات، وهو الكامل في صفات السؤدد.

فقوله {أحد} نفي النظير والأمثال، وقوله {الصمد} إثبات صفات الكمال، وقوله {لم يلد ولم يولد} نفي للصاحبة والعيال، {ولم يكن له كفوا أحد} نفي الشركاء لذي الجلال.

تفسير الفلق

قال رحمه الله في تفسير سورة الفلق:

فمعنى {أعوذ}: أعتصم والتجئ وأتحرز، وتضمنت هذه الكلمة مستعاذاً به ومستعاذاً منه ومستعيذا.

فأما المستعاذ به: فهو الله وحده رب الفلق الذي لا يستعاذ إلا به.

وقد أخبر الله عمن استعاذ بخلقه، أن استعاذته زادته رهقا (وهو الطغيان)، فقال: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} (سورة الجن).

و {الفلق}: هو بياض الصبح، إذا انفلق من الليل، وهو من أعظم آيات الله الدالة على وحدانيته.

وأما المستعيذ: فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.

وأما المستعاذ منه فهو أربعة أنواع:

الأول: قوله: {من شر ما خلق} وهذا يعم شرور الأولى والآخرة، وشرور الدين والدنيا.

الثاني: قوله: {ومن شر غاسق إذا وقب} والغاسق: الليل، إذا وقب: أي أظلم ودخل في كل شيء، وهو محل تسلط الأرواح الخبيثة.

الثالث: قوله: {ومن شر النفثت في العقد} وهذا من شر السحر، فإن النفاثات: السواحر التي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر، والنفاثات: مؤنث، أي الأرواح والأنفس، لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة.

الرابع: قوله: {ومن شر حاسد إذا حسد} وهذا يعم إبليس وذريته لأنهم أعظم الحساد لبني آدم أيضا. وقوله: {إذا حسد} لأن الحاسد إذا أخفى الحسد ولم يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، لم يضر المحسود.

تفسير الناس

قال رحمه الله في تفسير سورة الناس:

قوله: {قل أعوذ برب الناس} فقد تضمنت أيضا ذكر ثلاثة:

الأول: الإستعاذة وقد تقدمت.

الثاني: المستعاذ به.

الثالث: المستعاذ منه.

فأما المستعاذ به: فهو الله وحده لا شريك له رب الناس الذي رزقهم ودبرهم، وأوصل إليهم مصالحهم ومنع عنهم مضارهم.

{ملك الناس} أي المتصرف فيهم وهم عبيده ومماليكه، المدبر لهم كما يشاء، الذي له القدرة والسلطان عليهم، فليس لهم ملك يهربون إليه إذا دهمهم أمره، يخفض ويرفع ويصل ويقطع ويعطي ويمنع.

{إله الناس} أي معبودهم الذي لا معبود لهم غيره، فلا يدعى ولا يرجى ولا يخلق إلا هو، فخلقهم وصورهم وأنعم عليهم وحماهم مما يضرهم بربوبيته، وقهرهم وأمرهم ونهاهم، وصرفهم كما يشاء بملكه، واستعبدهم بالهيبة الجامعة لصفات الكمال كلها.

وأما المستعاذ منه: فهو الوسواس، وهو الخفي الإلقاء في النفس.

وأما الخناس: فهو الذي يخنس ويتأخر ويختفي، وأصل الخنوس: الرجوع إلى الوراء، وهذان وصفان لموصوف محذوف وهو: الشيطان، وذلك أن العبد إذا غفل جثم على قلبه وبذل فيه الوساوس التي هي أصل الشر، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به خنس.

قال قتادة: (الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس). ويقال رأس كرأس الحبة يضعه على ثمرة القلب ويمنيه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس، وجاء بناؤه على الفعال الذي يتكرر منه، فإنه كلما ذكر الله انخنس، وإذا غفل عاد.

وقوله: {من الجنة والناس}: يعني أن الوسواس نوعان: إنس وجن، فإن الوسوسة: الإلقاء الخفي، لكن إلقاء الإنس بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إليها، ونظير اشتراكهما في الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني في قوله: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} (الأنعام).

والله أعلم .

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.


من الدرر السنية في الأجوبة النجدية (19/451)

القراءة ... يا أمّة اْقرأ

القراءة ... يا أمّة اْقرأ

قرأ الخطيب البغدادي(ت 463) صحيح البخاري(5مجلدت) في ثلاثة مجالس.

وقرأ عبد الله بن لُبَّاج(ت 436) صحيح مسلم(5مجلدت) في أسبوع.

وقرأ المؤْتَمن السَّاجي(ت 507) المحدِّث الفاصل(مجلد كبير) في مجلس.

وقرأ المضفر(ت 593) صحيح البخاري(5مجلدت) في ثلاثة مجالس.

وقرأ ابن الأبَّار(ت 658) صحيح مسلم(5مجلدت) في ستة أيام والغَيْلانيات في مجلس.

وقرا العز بن عبد السلام(ت 660) نهاية المطلب(3مجلدات) في ثلاثة أيام.

وقرأ المزي(ت 742) المعجم الكبير للطبراني(25مجلد) في ستين مجلساً.

وقرأ الذهبي(ت 748) سيرة ابن هشام(3مجلدات) في ستة أيام.

وقرأ ابن الملقن(ت 804) مجلدين في الأحكام في يومٍ واحد

وقرأ البُلْقيني(ت 805) في يوم مجلد في الفقه.

وقرأ الحافظ زين الدين العِراقي(ت 806) مسلم(5مجلدت) في ستةِ مجالس.

وقرأ ابنُ الخبَّاز(ت 756) المسند(20مجلد) في ثلاثين مجلساً.

وقرأ الفيروزآبادي(ت 817) مسلم(5مجلدت) في أربعة عشر مجلسًا.

وقرأ ابن حَجَر العسقلاني(ت 852) المسند(20مجلد) في ثلاثةٍ وخمسين مجلسًا والبخاري(5مجلدت) في عشرة مجالس ومسلم(5مجلدت) في خمسة مجالس والسنن الكبرى للنسائي(6مجلدت) في عشرة مجالس والسنن لابن ماجه(مجلدان) في أربعة مجالس والمعجم الصغير للطبراني(مجلدان) في مجلس واحد. وألف جزءٍ حديثي، وكتابة (10) مجلدات في مئة يوم.

وقرأ الحافظ الدِّيَمِي(ت 908) البخاري(5مجلدت) في أربعة أيّام.

وقرأ القَسْطَلاَّني(ت 923) البخاري(5مجلدت) في خمسة مجالس.

وقرأ البِقاعي الحنبلي(ت 935) البخاري(5مجلدت) في ستة أيام ومسلم(5مجلدت) في خمسة.

وقرأ جمال الدين القاسمي الدمشقي(ت 1332) صحيح مسلم(5مجلدت) في أربعين يومًا، وسنن ابن ماجه(مجلدان) في واحدٍ وعشرين يومًا، و الموطَّأ(مجلدان) في تسعة عشر يومًا، وتهذيب التهذيب(4مجلدات) مع تصحيح سهو القلم فيه وتَحْشيته في نحو عشرة أيام.

وقرأ أحد الطلبة على الشيخ ابن باز سنن النسائي(4مجلدات) في سبعة وعشرين مجلسًا.

في تكرار الكتاب عدة مرات:

قرأ ابن عطية (ت 518) صحيح البخاري(5مجلدات) سبع مئة مرَّة

وقرأ سليمان بن إبراهيم اليمني(ت 825) صحيح البخاري(5مجلدات) مئة وخمسين مرة.

وقرأ بن الكُلُوتاتي(ت 835) البخاري(5مجلدات) أكثر من أربعين مرَّة

وقرأ أبي بكر المعروف بالتَّاجر(ت 805) صحيح البخاري(5مجلدات) أكثر من مائة مرة.

وقرأ التوزْرَي(ت 713) البخاري(5مجلدات) على ثلاثين شيخاً.

وقرأ الشيرازي(ت 803) صحيح البخاري(5مجلدات) على شيخ أكثر من عشرين مرَّة.

وقرأ البرهان الحلبي(ت 840) البخاريَّ(5مجلدات) أكثر من ستين مرة، ومسلمًا(5مجلدات) نحو العشرين.

وقرأ الفيروزآبادي(ت 817) صحيح البخاري(5مجلدات) أزيدَ من خمسين مرَّة

وقرأ العِمْراني(ت 558) المهذب أكثر من (40) مرة.

وقرأ الراجكوتي(ت 1398) معجم الأُدباء (8) مرات.

وقرأ أبو إسحاق الأبناسي(ت 836) التوضيح (70) مرة، وشرح ابن المُصَنِّف أكثر من (30) مرة.

وقرأ ابن التبَّان المدوَّنة (1000) مرة.

وكان الوليد الفارسي(ت 218) يدرس الكتاب ألف مرة.

وقرأ أبي بكر الأبهري(ت 375) مختصر ابن عبدالحكم خمس مئة مرة، والأسدية خمسًا وسبعين مرة، والموطأ خمسًا وأربعين مرة، ومختصر البرقي سبعين مرة، والمبسوط ثلاثين مرة.

وقرأ السِّجِلْماسِي الجزائري(ت 1057) البخاري سبع عشرة مرَّة بالدرس، قراءة بحثٍ وتدقيق.

في إقراء أو تدريس الكتاب عدة مرات:

درّس العَجَمي الشافعي(ت 642) المهذَّب (25) مرة.

ودرّس عبدالغافر بن محمد الفارسي(ت 448) مسلم أكثر من 60 مرة.

ودرّس ابن الفرَّاء الحرَّاني المقْنِع (100) مرة.

ودرّس السكاكيني الشافعي(ت 838) الحاوي (30) مرة.

ودرَّس النُّزيلي اليماني العُباب في الفقه (800) مرَّة.

ودرَّس الحريري ((البخاري)) أربع مرات بالمدينة، وبمكة أزيد من عشرين مرة.

وكان ابن هلال القرطبي(ت 367) يجلس كل يومٍ لاستماع ((المدوَّنة)) كل شهرين مرة.

ودرَّس العَيْزَرِي اليمني ((التذكرة)) (40) مرة.

ودرَّس المرِّي الفاسي(ت 1209) صحيح البخاري (40) مرة والألفية في النحو نحوًا من ثلاثين مرَّة ومختصر خليل نحو ثلاثين مرة،

ودرَّس أبي إسحاق الجبنياني(ت 369) ((المدوَّنة)) في شهر.

ودرَّس أبي الحسن التِّبْريزي الشافعي(ت 746) ((الحاوي)) للماوردي كُلَّه مرات عديدة في شهر.

ودرَّس ابن رسلان البُلْقيني(ت 805) ((الحاوي)) في أيامٍ يسيرة و((مختصر خليل)) في أربعين يومًا، و((الخلاصة)) في عشرة أيامٍ.

في نسخ الكتب عدة مرات:

كتب عبد الدائم المقدسي(ت 668) بيده ((الخِرَقي)) في ليلة واحدة، وكتب ((تاريخ الشام)) لابن عساكر مرتين، والمغني(14مجلد) للشيخ موفّق الدين مرَّات، وكتب بيده ألْفَي مُجلَّدة، ولازم الكتابة أزيد من خمسين سنة.

وكتب ابن طاهر المقدسي(ت 507) ((الصحيحين)) و((سنن أبي داود)) سبع مرات، و((سنن ابن ماجه)) عشر مرات.

وكتب المؤتمن الساجي(ت 507) ((جامع الترمذي)) ست مرات.

وكان أبي الفرج ابن الجوزي(ت 597) يكتب في اليوم أربع كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدًا إلى ستين، وكان يقول: كتبتُ بإصبعيَّ هاتين ألفي مُجلَّدة.

وكتب أبي بكرٍ الأبهري المالكي(ت 375) ((المبسوط)) و((الأحكام))، و((موطأ مالك))، و((موطأ ابن وهب))، ومن كتب الفقه والحديث نحو ثلاثة آلاف جزء.

واختصر ابن منظور صاحب ((لسان العرب)): تاريخ بغداد(17مجلد)، و((ذيله)) لابن النجار، وتاريخ دمشق لابن عساكر(أكثر من 50 مجلد)، و((مفردات ابن البيطار))، و((الأغاني)) –ورتبه على الحروف- و((زهر الآداب)) للحُصْري، و((الحيوان)) للجاحظ، و((اليتيمة)) للثعالبي، و((الذخيرة)) لابن بسَّام، و((نشوار المحاضرة)) للتنوخي، وكتب بخطه شيئًا كثيرًا، ترك منه بعد موته خمس مئة مجلَّد.

وكتب ابن المهندس تهذيب الكمال(35مجلد) للمِزِّي مرتين، وكذلك نسخ تحفة الأشراف(14مجلد) للمِزِّي.

ومن العجائب أن البيهقي قُطعت أصابعه العشر، ولم يبقَ له إلا الكفَّان فحسب، ومع هذا كان يأخذ القلمَ بكفَّيْه ويضع الكاغِدَ على الأرض، ويُمسكه بِرِجْل، ويكتب بكفيه خطًّا حسنًا مقروءًا ، وربما كان يكتب في كل يومٍ عشر ورقات.

وكتب الخواري ((المذهب الكبير)) للجويني أكثر من عشرين مرَّة.

وكتب أبي إسحاق المراوي بيده تسعينَ مجلد وسبع مئة جزء من علوم الحديث.

وكتب شهاب الدين النُّوَيري(ت 733) ((البخاري)) ثماني مرات.

وكتب ابن قاضي شُهبة مئتي مجلد، وبِيْع في تركته نحو سبع مئة مجلد، كاد أن يستوفيها مطالعة.

قال الجاحظ في ((الحيوان)):

سمعتُ الحسن اللؤلؤي يقول: غَبَرَتْ أربعين عامًا ما قِلْتُ ولا بِتُّ ولا اتكأتُ إلا والكتابُ موضوعٌ على صدري.

خليلي كتابي لا يَعاف وصاليا ... وإن قلَّ لي مالٌ وولَّى جماليا

كتابي عَشيقي حين لم يبقَ مَعْشَق ... أُغازله لو كان يدري غزاليا

كتابي جليسي لا أخاف ملاله ... محدّث صدقٍ لا يخاف ملاليا

كتابي بحر لا يغيض عطاؤه ... يُفيض عليَّ المال إن غاض ماليا

كتابي دليلٌ لي على خير غايةٍ ... فمن ثَمَّ إدلالي ومنه دلاليا


من كتاب: المشوق إلى القراءة وطلب العلم للعمران

الفتنة نوعان

قال ابن القيم رحمه الله:

الفتنة نوعان

فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين وفتنة الشهوات

وقد يجتمعان للعبد وقد ينفرد بإحداهما

فـفتنة الشبهات:

[سببها]

من ضعف البصيرة وقلة العلم، ولا سيّما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سيء القصد الحاكم عليه الهوى لا الهدى مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم:

{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ}

وقد أخبر الله سبحانه أن إتباع الهوى يضل عن سبيل الله فقال :

{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }.

[مآلها]

وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم، فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال.

[كيفية النجاة منها]

ولا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد إتباع الرسول، وتحكيمه في دق الدين وجله، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وما يثبته لله من الصفات والأفعال والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نصب الزكاة ومستحقيها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولاً في شيء دون شيء من أمور الدين، بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل لا يتلقى إلا عنه، ولا يؤخد إلا منه، فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد قلبه على ذلك، وأعرض ما سواه ووزنه بما جاء به الرسول فإن وافقه قبله؛ لا لكون ذلك القائل قاله بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رده ولو قاله من قاله، فهذا الذي ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه.

[نشوئها]

وهذه الفتنة تنشأ :

تارة من فهم فاسد،

وتارة من نقل كاذب،

وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به،

وتارة من غرض فاسد وهوى متبع،

فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة.

[فتنة الشهوات]

وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات.

وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله:

{كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ}

أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها. والخلاق هو النصيب المقدر،

ثم قال:

{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ}

فهذا الخوض بالباطل وهو الشبهات.

فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان؛ من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الداعين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.

فالأول : هو البدع وما والاها.

والثاني : فسق الأعمال.

فالأول: فساد من جهة الشبهات، والثاني: من جهة الشهوات.

ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه. وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.

[أصل كل فتنة]

وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل.

فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصل فتنة الشهوة.

[كيفية دفع الفتنتين]

ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل الله سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال:

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.

فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

وجمع بينهما أيضاً في قوله:

{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات.

وجمع بينهما في قوله:

{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}

فالأيدي: القوى والعزائم في ذات الله، والأبصار: البصائر في أمر الله وعبارات السلف تدور على ذلك ...

وقال جاء في حديث مرسل: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات.

فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة، والله المستعان.

مختصر من كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان

للإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله